Page Nav

الهيدر

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

نجاعة السياسات العمومية ورهان التنمية 2016

نجاعة السياسات العمومية ورهان التنمية يعتبر موضوع السياسات العامة من المواضيع التي بدأت تلقي اهتماما من قبل علماء السياسة، كما بدأت ال...


نجاعة السياسات العمومية ورهان التنمية

يعتبر موضوع السياسات العامة من المواضيع التي بدأت تلقي اهتماما من قبل علماء السياسة، كما بدأت المدارس و الجامعات تولي اهتماما متزايدا، حيث نرى أن مجموعة من الباحثين قد أسهموا فعلا في دراستها و تحليل نتائجها مع أنهم اختلفوا في كيفية تناول الموضوع فمنهم من يرى أن العمليات و ليس السياسات هو ما ينبغي التركيز عليه، وهناك من يرى ضرورة الخوض في تفاصيل العمليات و السياسات العامة معا[1].
ومدخل السياسات العامة في العلوم السياسية يهتم بكلا المجالين، فيركز على مشاكل السياسات العامة كالتضخم و تكافؤ الفرص في التشغيل، ومن تم يأتي الاهتمام بما تم عمله وكيف تم ذلك و ما هي انعكاساته و نتائجه، ثم يعرج على دور المؤسسات و العناصر السياسية كدور الرأي العام أو المجتمع المدني لكونها تساعد في تحديد نوع الفعل الصادر من الحكومة إزاءها. فما المقصود بالسياسات العامة’ ؟
تعريف السياسة العامة :
سنعطي تعريفا من خلال مثال، فنقول : إن نتيجة الإصلاحات المتعاقبة على ميدان التعليم وتعريفه وتفسير نظامه، وإحداثه لبرامج استعجالية للنهوض به دون أن يواكب ذلك إدماج الخريجين في الحياة العملية، كل هذا أدى إلى الإحباط و العزوف عن التعليم و التكوين عند طائفة كبيرة من الشباب، بل أبعد من ذلك فقد تزايدت النقمة و الكراهية للحكومة من جانب المتخرجين منهم وفقد أغلبيتهم ثقتهم بها.
أيضا فالموظف الذي يسوق سيارته ويضطر إلى قضاء ساعات من الانتظار خلال أوقات الذروة – الازدحام – مسجونا بسيارته، فهو الآخر يعاني من تأثير السياسة العامة التي ركزت على الطرق السيارة و أهملت نظام النقل العام داخل الحواضر، في حين أن سياسات أخرى بديلة للنقل يمكن أن تحقق نتائج أفضل لو تمت مناقشتها.
كل هذا ليس طبيعيا، كما أن هذه المشاكل ليست عفوية بل نجمت عن السياسات العامة التي اتخذت بالتعاقب.
و التحدث عن السياسات العامة أمر شائع في الحياة العامة، وقد يستخدم في إطاره الواسع كالسياسة الخارجية. أو السياسة المالية، أو يستخدم في إطار ضيق كالسياسة المتعلقة بالنهوض بالعالم القروي.
فهي ليست موجهة لفرد أو لأحد بذاته وإنما توتر بعمق في نمط الحياة للمواطنين عامة.
و عامة فان مصطلح (السياسة) يستخدم للإشارة إلى سلوك الفاعل سواء كان مسؤولا حكوميا أو لجنة أو جهة رسمية أو مجموعة منهم تعمل في نطاق أو نشاط معين، و هو معني يلائم شيوع المصطلح في أوساط العامة. ولكن ليسهل الفهم و التواصل سنجيب على السؤال الآتي: ما معنى أو ما مفهوم السياسة العامة؟
مفهوم السياسة العامة
إن أدبيات العلوم السياسية مليئة بتعريفات هذا المصطلح و كل من أسهم في إعطاء تعريف حاول أن يكون أدق من غيره و سوف نقتصر هنا على تعريفين، تعريف رجارد روز (Rose) الذي قال بأنها : " سلسلة من الأنشطة المترابطة قليلا أو كثيرا و ليست منفصلة و أن نتائجها تؤثر على من تهم مستقبلا[2] " ، و الملاحظ أن تعريف روز يتضمن الفكرة المهمة القائلة بأن السياسة ليست قرارا بفعل شيء وإنما برنامج أو نسق من الأنشطة غير المحددة.
أما كارل فريدريك فيقول " ان السياسة هي برنامج عمل مقترح لشخص أو جماعة أو حكومة في نطاق بيئة محددة لتوضح الفرص المستهدفة و المحددات المراد تجاوزها سعيا للوصول إلى هدف أو لتحقيق غرض مقصود[3] فالسياسة هنا موجهة نحو أهداف و هذا ما يجعل فيها سلوكا هادفا و موجها على الرغم من أن أهداف الحكومة قد يصعب فرزها أحيانا على وجه التحديد، و أن المطلوب من السياسة هو بلورة ما يتم فعله و ليس مجرد افتراض أو مقترح يمكن أخذه.
ومراعاة للصعوبات التي تثيرها التعريفات أعلاه فيمكن القول بكل بساطة أن السياسة هي برنامج عمل هادف يعقبه أداء فردي أو جماعي في التصدي لمشكلة أو لمواجهة قضية أو موضوع خلافا للقرار الذي هو مجرد خيار من بين البدائل.
و السياسة العامة هي تلك التي تطورها الأجهزة الحكومية من خلال مسؤوليتها علما أن بعض القوى غير الحكومية أو غير الرسمية قد تسهم أو تؤثر في رسم و تطوير بعض السياسات العامة و تستمد خصوصيتها من كونها متخذة من قبل السلطات المخولة، من جانب النظام السياسي، وهؤلاء عادة هم المشرعون و القياديون و الحكام و الرؤساء و المجالس و الهيئات العليا، إنهم هم المسؤولون وهم الذين يتمتعون بالسلطات لرسم السياسات و التصرف في إطار حياتهم التي تكون عامة مقيدة و محددة و ليست مطلقة[4].
و استنادا إلى ما تقدم يمكن تحديد بعض المفاهيم السياسية العامة على الوجه التالي :
أنها تشمل الأعمال الموجهة نحو أهداف مقصودة و لا تشمل التصرفات العفوية التي تصدر عن المسؤولين.
أنها تشمل البرامج و الأعمال المنسقة التي تصدر عن القادة الحكوميين و ليست القرارات المنفصلة، إنها على سبيل المثال تشمل المراسيم الصادرة بتشريع القوانين و كذا القرارات المنفذة لهذه القوانين.
 تشمل السياسات العامة جميع القرارات الفعلية المنظمة و الضابطة لمعالجة التضخم أو لمعالجة مشكلة السكن، ولا تشمل ما تنوي الحكومة أن تفعله، لأن الوعود و الأمانة شيء و السياسة العامة شيء آخر.
 السياسة العامة قد تكون ايجابية في صيغتها مثلما تكون سلبية ، فهي قد تأمر بالتصرف باتجاه معنى و قد تنهى عن القيام بتصرفات غير مرغوبة أو قد يعد سكوتها أو عدم التزامها بالتصرف إزاء ظواهر معينة بمثابة توجه. فالحكومة قد تبني مثلا سياسة عدم التدخل المسماة ب Laisser faire أو رفع اليد Hand off  في ميدان أو قطاع ما أو إزاء ظاهرة محددة بذاتها فهي في كل الأحوال تؤثر بمواقفها على السكان أو على المعنيين بهذه الأمور .
و أخيرا فان السياسة العامة لاسيما في شكلها الايجابي، أي الآمرة ينبغي أن تكون شرعية و قانونية حتى تصبح ملزمة للخاضعين لها، كتلك التي تنص على دفع الضرائب، و هذا ما يحتم صدورها عن الجهات المخول لها ذلك و عبر المراحل التي يستلزمها تحقيق الشرعية.
كما يمكن فهم مصطلح السياسة العامة بصورة أدق حين ما يجزأ إلى أصناف مثل : مطالب السياسة العامة، القرارات، التصريحات ، المخرجات، العوائد. و ليس من الضروري أن تظهر هذه الأصناف بنفس التسلسل في الواقع العلمي، و مع ذلك نستعرضها بإيجاز.
مطالب السياسة
وتشمل كل ما يطرح على المسؤولين من جانب الأغيار وذلك للتحرك إزاء قضية معينة أو التوقف عن المضي فيها، فالمطالب المطروحة تولد الحاجة إلى إثارة الانتباه لسياسات عامة و تعد نقطة البدء في دراسة عملية صنعها.
قرارات السياسة
وتشمل ما يصدره الموظفون العموميون المخولون بإصدار الأوامر و التوجيهات المحركة للفعل الحكومي. كقرار الصلح الجبائيFiscal  Amnistie  و بناء 200 ألف سكن، و التي قد تتعارض مع العديد من القرارات الروتينية اليومية المعتمدة على تطبيق سياسة عامة .
تصريحات السياسة
وهي تعبيرات رسمية أو عبارات موحية بسياسة عامة و تشمل التفسيرات القانونية و الضوابط المجددة للسلوك و آراء الحكام التي تعبر من المقاصد العامة و الأغراض المطلوب تحقيقها و الأعمال الموجهة نحوها كقضايا التلوث البيئي أو قضايا الطاقة أو غيرها من التصريحات.


مخرجات السياسة
وهي الانعكاسات المحسومة الناجمة عن السياسات العامة و على ضوء قرارات السياسة و التصريحات التي يتلمسها المواطنون من الأعمال الحكومية، و قد تكون المخرجات المتحققة عن السياسة العامة بعيدة أو مختلفة عما يتوقع تحققه أو ما تنص عليه السياسة نفسها.
و هي أيضا النتائج التي يتلقاها المجتمع من تطبيق السياسات العامة سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة و التي تنجم عن الفعل و الإمتناع عن الفعل، و سياسات الرفاهية مثال يمكن أن يضرب لقياس الحصيلة المتحققة هنا من خلال المبالغ المقترحة فعلا للمستفيدين من هذه السياسة، و كذلك عددهم و معدل ما يحصل عليه كل منهم. و لكن ما حصيلة ذلك العمل و تلك المساعدات؟ هل أدت إلى زيادة الأمان لدى الأفراد، و زيادة المتعة و الإرتياح عندهم أم أنها قللت من مبادرتهم و نشاطهم؟ و هو سؤال قد تصعب الإجابة عليه و لكن إثارته قد تساعدنا على فهم العلاقة بين السياسة و المتحقق الفعلي و النهائي منها، و هو ما ينبغي مراعاته من جانب محللي السياسة العامة و صانعيها(المبحث الأول)، و هي تساعدنا على التأكيد مما إذا كانت السياسات العامة تصب في الوعاء الموجهة إليه و تتوصل إلى الأهداف  التي شرعت من أجلها أم لا، و هذا التساؤل يدخل في تقييم السياسات العامة. (المبحث الثاني)
المبحث الأول تحليل السياسات العامة
سوف نتناول هذا الموضوع من خلال استقراء بعض النظريات الفكرية التي اهتمت بتحليل السياسات العامة (المطلب الثاني) بعد أن نورد مثالا عن الإيديولوجيات التي أنتجت قرارات سياسية و اتخذتها سياسة عامة (المطلب الأول)
المطلب الأول: سياسة عامة خلف قيم إيديولوجية:
الإيديولوجيات عبارة عن مجموعة من القيم و المعتقدات المترابطة، التي تساهم في تصوير العالم المحيط، و توجه المؤمنين بها من الموظفين لاتخاذ القرارات المنسجمة معها.
فالماركسية اللينينية كانت إطارا للقرارات السوفيتية في التغيير الإجتماعي و الإقتصادي و قد يخرجون عنها في بعض الأحيان لجعلها أكثر ملائمة و قبولا. و في الدول النامية سواء في  آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية أو الشرق الأوسط، كانت القومية و الوطنية منطلقا لقراراتهم السياسية و إقامة علاقتهم الدولية، و ذلك خلال القرن العشرين و عقب انتهاء الإستعمار.
المطلب الثاني: بعض الإتجاهات لتحليل السياسة
و كما أسهم علماء السياسة في تطوير النماذج و النظريات التي تتناول صنع القرارات و تسهل فهمها و عملياتها، فإنهم طوروا بعض النظريات و الإتجاهات لتساعد في دراسة و فهم السلوك السياسي  لمجمل النظام السياسي، و مع أن أغلبها  لم يوضع خصيصا للتحليل بذاته فإنها يمكن أن توظف فعليا لهذا الغرض. و فائدة هذه النظريات تتوقف على استخدامها في دراسة الظواهر السياسية و تعميق الفهم لأسبابها و جذورها و مضاعفاتها إضافة إلى فائدتها في رسم و إقرار السياسات العامة التي هي موضوع بحثنا.
لذا سنورد هنا بعض هذه النظريات:
ü     نظرية النظم السياسية:
قد ينظر إلى السياسة العامة على أنها استجابة النظام السياسي للحاجات و المطالب المطروحة عليه. و النظام السياسي كم يعرفه ديفيد ايستن مركب يضم مؤسسات و أنشطة مترابطة و محددة  في المجتمع[5], و تمثل المطالب و الدعم البيئة. و بيئة النظام  تشمل كل الظروف و الأحداث الواقعة خارج حدود النظام السياسي،  و المطالب هي كل ما يطرحه الأفراد و الجماعات على النظام السياسي  للتصرف من أجل إشباع مصالحهم. و الدعم يتمثل في استسلام  الأفراد و الجماعات لنتائج الإنتخابات و دفع الضرائب و إطاعة القوانين و قبول القرارات و التصرفات الصادرة عن النظام السياسي  و هو يستجيب للمطالب. هذا التوزيع و الإحلال للقيم  يكون السياسة العامة.
إن فوائد نظرية النظم لدراسة السياسة العامة يحددها الطابع العام لها، فهي لا تقول كثيرا حول كيفية اتخاذ القرارات أو كيفية صنع السياسة. و مع ذلك فإنها تعد مفيدة لتنظيم معرفتنا حول صنع السياسة مثل كيف تؤثر البيئة في السياسة العامة و تطبيق النظام السياسي؟ مثل كيف تؤثر السياسة العامة في البيئة و مطالبها؟ و ما طبيعة القوى و العوامل البيئية المولدة للمطالب المطروحة على النظام؟ و كيف يمكن للنظام السياسي أن يحول المطالب إلى سياسة عامة و يحافظ على نفسه؟
ü     نظرية الجماعة:
و فقا لهذه النظرية فإن السياسة العامة هي حصيلة كفاح الجماعات، و أن ما يسمى سياسة عامة هو تعادل أو توازن تتوصل إليه الجماعات عبر كفاحها في موقف ما لضمان مصالحها أو التعبير عن إرادتها. و النظرية تنطلق من الإفتراض القائل بأن التفاعل و الكفاح بين الجماعات هو أساس الحياة السياسية. و الجماعة هي تجمع أفراد تربطهم مصالح أو مشاعر موحدة  فيطرحون مطالبهم أمام الجماعات الأخرى التي يضمها المجتمع، و تصبح هذه الجماعات  مصلحية حين تطرح مطالبهم أمام المؤسسات الحكومية[6]، و هذا ما تفعله أغلب الجماعات عادة. و أهمية الفرد في النظام السياسي تستمد من عضويته في إحدى هذه الجماعات و تمثيله لها، فعبر الجماعات يمارس الأفراد اختياراتهم، فمن خلال وجودهم في جماعات يتمكن الأفراد من تأمينات تفضيلاتهم السياسية.
و دور المشرع  في صنع السياسة يتمثل في كونه يحسم كفاح الجماعات فيقوي التكتل المنتصر في الكفاح و يسجل للتكتل المتراجع موقفه أو يسجل حصيلة المساومة بينهما و يوثق ذلك التشريع. فالتشريعات تبعا لهذا تمثل نهاية الصراع أو التنازلات و المفاوضات التي تجري عبر العمليات، و التي تتفاعل في إطارها الجماعات المتناحرة و المتنافسة و ما تصل إليه من حلول وسط قد ترضي الأطراف. فالتصويت على السياسات يعكس القوة التي تتمتع بها الجماعات أو التوازن الذي تتفق عليه في ساعة التصويت. و المؤسسات الإدارية ذات الطابع التنظيمي غالبا ما تستهدف لتنفيذ الإتفاقيات التي نوقشت و أقرت من قبل الهيئات التشريعية.[7] 


ü     نظرية النخبة:
السياسة العامة  من وجهة نظر هذه الفئة تعتبر بمثابة القيم و التفضيلات لدى النخبة الحاكمة. فجدل تلك النظرية  يذهب إلى التأكيد بأن الناس ليسوا هم الذين يحددون السياسة العامة من خلال مطالبهم و أفعالهم ، و إنما القلة الحاكمة، و من خلال البيروقراطية الحاكمة التابعة لها هي التي توجه السياسات العامة و تصنعها. و قد لخص داي (Dye)  و زيجلر (Zeigler) في كتابهما (تجاهل الديمقراطية) النظرية على النحو التالي:[8]
Ø     أن المجتمعات تنقسم إلى قلة تملك بيدها القوة و إلى أغلبية مستضعفة، و إن أفرادا محددين هم الذين يوزعون الخيرات على الناس الذين لا حول لهم و لا قوة؛
Ø     إن القلة الحاكمة ليست ممثلة للكثرة المستضعفة، فكثيرا ما تكون النخبة الحاكمة من الطبقة العليا النافذة و الغنية؛
Ø     إن تسرب الأفراد من الأكثرية إلى النخبة يقيد بضوابط شديدة للحفاظ على الإستقرار و لتجنب الثورة، و لا يدخل إلى النخبة إلا الذين يؤمنون حقا بمعاييرها و يقتنعون بها و يخلصون لها؛
Ø     يتفق أفراد النخبة على القيم و القواعد و المبادئ الأساسية للنظام الإجتماعي، كالليبرالية و الرأسمالية و الحرية الفردية؛
Ø     السياسات العامة لا تلبي مطالب الناس أو تعبر عن مصالحهم و إنما تحمي مصالح النخبة،  و التغيير في السياسات العامة يكون تدريجيا و تصاعديا و ليس ثوريا (فالتغيير التراكمي أي التدريجي هو الذي يسمح بالإستجابة للأحداث التي تهدد النظام الإجتماعي و ضمن الحد الأدنى من التهديد)؛
Ø     إن النخبة الفاعلة لا تخضع لضغوط الجماهير إلا بالحد الأدنى، فالنخبة هي التي تضغط و تؤثر في الناس و ليس العكس.
و هكذا تصبح السياسة العامة وفق نظرية النخبة استفزازية و مهيجة للجماهير لكونها موجهة نحو مصالح القلة و معبرة عن قيمهم، و قد تكون في بعض الأحيان موجهة نحو تحقيق الرفاهية للناس وفقا لمنطق القلة.
ü     نظرية العمليات الوظيفية:
و تعتبر هذه النظرية مدخلا آخر لتحليل السياسات العامة يعتمد على التركيز على النشاطات الوظيفية المختلفة للعملية التي تصنع فيها السياسة العامة، و قد شرحها هارولد لاسويل[9] من خلال سبع نشاطات أساسية هي:
Ø     الإستخبار: و تتعلق بكيفية تجميع و معالجة المعلومات المتعلقة بمسائل السياسة و التي تنال اهتمام صناع السياسة؛
Ø     التوصيات: و تتمثل في كيفية صياغة و تبني التوصيات المتعلقة بمسائل معينة؛
Ø     الوصف: و يتمثل في كيفية تبني و تطبيق القواعد و عن طريق من؟
Ø     الإنفاذ: و ذلك لتحديد ما إذا كان السلوك متعارضا مع القوانين و القواعد أم لا؟
Ø     التطبيق: كيف يتم تطبيق القوانين فعليا؟
Ø     التقييم: كيفية تقييم عمليات السياسة من حيث فشلها أو نجاحها؟
Ø     الإنهاء: كيف ينتهي العمل بالقوانين و القواعد الأصلية أو يقرر الإستمرار بها؟
و قد سمى لاسويل هذه الخطوات بعمليات القرار، و هي تتعدى عملية الصنع إلى التنفيذ و التقييم التي ترافق السياسات العامة باعتبارها برنامج عمل مستمر؛ و في نهاية المطاف قد يلجأ صانع السياسة إلى إعادة تطبيق نفس المراحل لتجديد أو تعديل السياسة هذه أو الإبقاء عليها. و هذا الإطار التحليلي لا يرتبط بمؤسسات معينة أو بواقع سياسي بعينه أو قد يصلح بعامة لمختلف السياسات العامة المقارنة, و بالإمكان تطبيقه لمعرفة مدى الإلتزام به في مختلف السياسات و من قبل مختلف المؤسسات و أوجه التشابه و الإختلاف في التطبيق. إن تأكيد هذه الخطوات الإجرائية يسهم في إخراج مفهوم السياسة العامة من إطارها الأكاديمي و ربطها بالقواعد و البيئة المطبقة لها، لذا فإن صنع السياسة يتعدى مجرد كونه عملية فكرية فحسب.
ü     النظرية المؤسساتية:
إن دراسة المؤسسات الحكومية يعد من أقدم الطرق المستخدمة في العلوم السياسية، فالحياة السياسية في أي مجتمع تظل وثيقة الصلة بسلوك الأجهزة و السلطات الحكومية المتمثلة في المؤسسات التنفيذية  و التشريعية و القضاء و بالأحزاب السياسية، بل إن السياسة العامة لا تصدر إلا من جهات رسمية  مخولة، و كذلك الحال بالنسبة لتنفيذها. و ليس غريبا أن يهتم علماء السياسة بدراسة هذه المؤسسات، و المدخل التقليدي  الذي كان يتبع في دراستها ينصب حول التركيز على الجوانب الرسمية و على القواعد و الصلاحيات و النظم التي تتبع فيها، و كذلك الهياكل و المستويات و العلاقات التي تسود بينها، و لم يكن الإهتمام بالسلوك العملي الفعلي لهذه المؤسسات يستحق الذكر،  كما أن دراسة المؤسسات هذه لم يكن يشمل السياسات العامة التي كانت تصدرها.
و لكن سرعان ما تحول اهتمام علماء السياسة من النهج التقليدي في دراسة المؤسسات إلى التوجه الجديد الذي يهتم بدراسة و بحث العملية الأساسية في إطار المؤسسات الحكومية، مع التركيز على السلوك الصادر من المشاركين في هذه العملية. و هو تحول من دراسة ما ينبغي أن يكون إلى دراسة ما هو كائن. فبدراسة المؤسسة التشريعية على سبيل المثال، أصبحت متحركة و واقعية لما يجري بداخلها  بعد أن  كانت ساكنة و إجرائية بخطواتها. و المؤسسة في إطارها الرسمي و الهيكلي لا يمكن الإستغناء عنها في التحليل السياسي ، فالمؤسسة  هي إطار موجه لسلوك الرسميين داخل هذه المؤسسات، و هذا هو الذي يميز المؤسسة القضائية عن المؤسسة التنفيذية. و كثيرا ما يطلق على الأنماط السلوكية النمطية بالقواعد أو الهياكل و الضوابط، و هي بلا شك تلعب دورا في صنع السياسات، و هي ليست محايدة في مضمونها أو في توجيهها للخيارات نحو بعض المصالح دون الأخرى. و قد يلعب بعض السياسيين دورا في اتخاذ السياسات العامة الموجهة لصالح الأقليات على مستوى الجهة أكثر مما يستطيع أمثالهم على مستوى الحكومة.
و باختصار فإن الهياكل المؤسساتية و الإجراءات و القواعد تلعب دورا في صنع السياسات، و لا يجب أن تهمل في تحليل السياسات، كما أن تحليلا كهذا ينبغي أن لا يعد كافيا لوحده دون أن تؤخذ بعين الإعتبار المظاهر الحركية السياسية.
إن تقييم هذه الطرق و المفاضلة بينها قد لا يكون سليما، فليس هناك طريقة منها تعد الأصح أو الأفضل بينها جميعا[10]، لأن كل منها يركز على جانب، و قد تتناسب كلا أو بعضا منها مع ظرف أو نوع من هذه السياسات أكثر من غيرها. و المرونة هنا في اختيار الطريقة الأنسب، تعد ميزة على الجمود في التزام طريقة واحدة دون غيرها.
خاتمة المبحث:
إن طبيعة السياسات العامة تكمن في تنوع الطرق و العمليات المستخدمة في صنعها؛ فالسياسة الخارجية و الضريبية و سياسات الطرق و المدارس الخاصة و التكوين المهني و سياسات الإصلاح الإداري لكل منها خصوصياتها و طريقتها التي تناقش بواسطتها و توضع في ضوئها. و الأكثر من ذلك فإن نقطة البدء  في مناقشة السياسة العامة، و هل تبدأ في السلطة التشريعية أو التنفيذية  أو القضاء، كثيرا ما تغير من طبيعة الطريقة أو العملية  التي تتبع  في صنعها  و اتخاذها، بل إن لكل دولة خصوصية في بلورة هذه الطرق، فسياسة الضرائب في الجزائر تتخذ بطريقة تختلف عن تلك التي تراعى من قبل موريتانيا أو إسبانيا. و مع كل ما هو موجود من تباين و تنوع فإن المهتم يمكنه أن يفكر في نظرية خاصة به لصنع السياسة العامة، لكن الأمر يحتاج إلى البحث عن بعض التعميمات حول: من هم المشاركون في صنع السياسة؟ و على أي القضايا و تحت أي ظروف و بأي الطرق و ما هي الأغراض و الآثار و النتائج؟ على أن لا يغفل السؤال عن كيفية تطوير المشاكل للسياسات العامة و الملفتة لأنظار متخذيها، فهذه الأسئلة ليست بسيطة كما تبدو لأول وهلة، و لكن تبلور إطارا منهجيا لكون السياسة العامة تمثل خطوات متعاقبة في العمل و التصرف، تتضمن خطوات عملية من النشاط يمكن تمييزها تحليليا، بالرغم من أن هذا التمييز يصبح صعبا من الناحية التجريبية. و هذه الخطوات يمكن أن تختصر  فيما يلي[11]:
Ø     صياغة المشكلة: ما مشكلة السياسة؟ و ما الذي يجعلها عامة؟ و ما تسلسلها في أجندة الحكومة؟
Ø     التكوين و البلورة: كيف تصاغ أو تطرح البدائل للتعامل مع المشكلة التي صيغت؟ و من هم المشاركون في صياغة السياسة العامة؟
Ø     التبني: كيف ينتقى البديل المفضل و يصاغ كمشروع للسياسة العامة، و كيف يشرع، و ما مستلزمات ذلك؟ و ما الخطوات التي تتبع و المضمون الذي يدخل فيها؟
Ø     التطبيق: من هم المعنيون؟ و ما الذي يفعلونه لتنفيذ السياسة؟ و ما الذي سيتركه التنفيذ على مضمون السياسة؟
Ø     التقييم: من هم الذين يقومونها؟ و أين تذهب نتائج التقييم؟ و كيف توظف؟ و هل ستؤدي إلى تغيير أو تعديل فيها؟
و في هذا الإطار يمكن اعتبار السياسة العامة و كيفية صنعها  و تنفيذها عملية سياسية في طابعها، لكونها تتضمن صراعا بين الأفراد و الجماعات و أحيانا كفاحا و نضالا من أجل الخيارات حول قضايا سياسية و ماشاكلها، فهي سياسة إذن و ينبغي عدم التساهل في إضفاء هذه السمة عليها. كما أنه في التطبيق العملي غالبا ما يكون هذا التعاقب في الخطوات هو المعتمد الموضح للتوقيت الذي تأخذه كل خطوة ، وقد يكون الترتيب مرنا و قابلا للتكييف[12].
فخطوات إضافية يمكن إدخالها عند الحاجة، كما أن أساليب متنوعة في جمع المعلومات الوصفية أو الكمية يمكن توظيفها، لكونها تساعد على تطوير آراء أو طرح أفكار بطريقة متحركة بدلا من تبني نظريات جامدة أو طبقية. و هي تساهم في تصنيف الظواهر السياسية و لا تكتفي بمجرد طرح عوامل و متغيرات للتصنيف، و هذه النظرة تعد مفتوحة لتحليل كل أنواع السياسات و في كل المجتمعات، فهي ليست مرتبطة بحضارة ما. و أخيرا فإنها تصلح كمنهج لإجراء المقارنات بين تجارب الدول المختلفة و كيفية تعاملها مع مشاكلها و صياغة سياساتها العامة.


المبحث الثاني: تقييم السياسات العامة
في شرح أثر السياسة و تقييمها لا بد من التمييز بين مخرجاتها و بين عوائدها ، فالمخرجات تشمل كلما تحققه الحكومة كبناء الطرق السريعة و دفع منافع الرفاهية و المساعدات و القبض على اللصوص و فتح المدارس و إدارتها. هذه النشاطات قد تقاس بمعايير مثل: النفقات المخصصة للطرق، نفقات الرفاهية، عدد اللصوص المقبوض عليهم، نصيب الطالب الواحد من الإنفاق على التعليم و غيرها. فهذه أرقام تساعدنا كثيرا في تحديد عوائد أو آثار السياسات العامة التي تحدد من خلال التغيير الذي تحدثه في البيئة أو في النظام السياسي ، فمعرفة كم ينفق على الطالب في نظام المدارس من العائد الوطني لا يعرفنا بما تحدثه المدارس من آثار على مدارك الطلبة أو على قدراتهم، أو ما يفعله النظام التربوي بمفرده للمجتمع عموما إذا ما عزلنا بقية المتغيرات المؤثرة الأخرى.
فتقييم السياسات إذن– محاولة لتحديد - يهتم بالآثار الفعلية التي تنجم عن فعل السياسة في الظروف الواقعية لحياة المجتمع، فمصطلح (محاولة تحديد) يستعمل كما سيتضح بسبب صعوبة تقرير أو فرز الآثار و النتائج المتحققة من السياسات في الحياة العملية. فتقييم السياسة يتطلب كحد أدنى معرفة ماذا نريد أن ننجز أو نحقق من السياسة موضوع البحث، و كيف نحاول أن نحقق هذه البرامج و ما الذي حققناه منها. و لقياس الإنجاز نحتاج إلى تحديد التغيير الحاصل حقا في الظروف المحيطة  كأن نقرر مستوى الإنخفاض في معدلات البطالة الذي تحقق، إضافة إلى معرفة ما كان ينبغي أن تحققه السياسة موضوع البحث لوحدها في هذا المجال،  و ليست العوامل الأخرى كالقرارات الإقتصادية الخاصة. لذا فسنقسم المبحث إلى مطلبين، يتناول أولهم أبعاد تقييم السياسات العامة، بينما يتحدث المطلب الثاني عن مشاكل تقييم السياسات العامة.
المطلب الأول: أبعاد تقييم السياسات العامة
لأثر السياسة أبعاد متعددة ينبغي أخذها بعين الإعتبار في مجال التقييم[13]  و هذه تتضمن:
ü     أثرها على المشاكل العامة التي وجهت لحلها و على الشريحة الجماهيرية المعنية بها، فهؤلاء الذين أريد من السياسة أن تخدمهم، و يجب أن يعرفوا، و سواء كان هؤلاء هم شريحة الفقراء أو صغار التجار أو مدارس الطلبة المعاقين. فإذا كان على سبيل المثال – البرنامج يخص محاربة الفقر فالغرض هل هو رفع الدخل لشريحة الفقراء ؟ أم زيادة فرص التشغيل و العمالة؟ أو لتغيير اتجاهات و سلوك المعنيين؟ و إذا كان القصد هو التوفيق بين هذه الأغراض فالتحليل يكون أكثر تعقيدا لأن الأولويات بين هذه الأغراض لابد أن تحدد لتقدير الآثار المتحققة لكل منها.
و الأكثر من ذلك لابد من الإنتباه إلى أن السياسة العامة قد تتضمن نتائج مقصودة و نتائج غير مقصودة أو كلاهما ، فبرنامج الرفاهية قد يحسن الوضع الإقتصادي للمنتفعين كما كان مقصودا، و لكن كم كان تأثيره على حفز هذه الشريحة للبحث عن فرص التشغيل؟  هل قللت من ذلك كما يدعي البعض؟ و برنامج الإسكان قد يؤدي إلى تحسين مستوى السكان في الضواحي، و لكن قد يؤدي إلى استغلال المنتفعين من قبل المستثمرين، و برنامج دعم الزراعة قد يساهم في تحسين دخل المزارعين و لكن قد يضاعف إنتاج السلع المدعومة أو زيادة أسعار الغداء للمستهلكين.
ü     و التكاليف المباشرة للسياسة تعتبر متغيرا آخر في التقييم، فمن السهل احتساب المبالغ التي تكلفها البرامج و السياسات، وفقا لما تم  صرفه فعليا أو معرفة نسبة هذه النفقات للمجموع الكلي للإنفاق الحكومي  أو نسبتها من الدخل القومي المتحقق للدولة. لكن بعض البرامج أو السياسات يظل احتساب تكاليفها ليس سهلا  لاسيما تلك التي يشارك في تنفيذها القطاع الخاص و الأفراد، كسياسات الحفاظ على البيئة من التلوث، فحساب تكاليفها لا يعد أمرا سهلا.
ü     و السياسات قد تكون لها تكاليف غير مباشرة يدفعها المستفيدون من المناطق و الأقاليم أو الأعضاء في بعض التنظيمات، فهذه النفقات عادة لا يتم أخذها بعين الإعتبار عند صياغة البرامج أو تقييم و وضع السياسات، لأنها قد لا تكون واضحة أو معروفة سلفا، فكيف يمكن على سبيل المثال معرفة تكاليف أو قياس الأعباء و الأضرار التي تنجم عن مشروع تجديد الضواحي المجاورة للمدن؟ أو شق طريق سريع عبر أراضي مملوكة للخواص؟
و طبيعي أن يكون صعبا قياس المنافع غير المباشرة للسياسات العامة المتحققة للمنطقة المشمولة بالسياسة. فلنفرض أن سياسة حقوق الطبع و النشر و التأليف و براءات الإختراع قد أدت بدورها إلى نشاطات تطويرية  و اقتصادية للمؤلفين  فكيف يتم قياسها كميا؟ و برنامج الضمان الإجتماعي قد يؤدي إلى الإستقرار الإجتماعي  و إلى تحسين الأوضاع المادية للمتقاعدين و هنا أيضا تظهر صعوبة التقييم و القياس.
و من السياسات أيضا سياسات الغرامات على الغش و سياسات الرسوم على استخدام المرافق العامة و سياسة تكافؤ الفرص في العمل، و لكن مع أن نتائجها المتحققة أقل مما يقال و يشاع عنها فإنها على جانب كبير من الأهمية من حيث دورها الإجتماعي. فبرنامج محاربة الفقر الذي يفشل في تحقيق المستوى الأدنى المنشود يظل مفيدا لكونه يشعر الناس بأن الدولة معنية بالفقراء ة مهتمة بمشكل الفقر، و برنامج تكافؤ الفرص في التشغيل يشعر المواطنين بأن الدولة تحارب التمييز. و بعيدا عن النتائج الفعلية المتحققة من هذه السياسات فإنها تسهم في الضبط و الإستقرار الإجتماعي و تزيد  من ثقة الناس بحكومتهم و دعمهم لها  و هي اعتبارات غير مقصودة أو مرسومة كأغراض مباشرة لهذه السياسات العامة.
و تقييم السياسة العامة يركز عادة على ما تفعله الحكومة فعلا، و على الأسباب أو الطرق التي تنفذ من خلالها السياسات و الآثار المترتبة عليها. و مع ذلك يجب أن لا ننسى الآثار الرمزية المعنوية للسياسات على الرغم من كونها ليست مقصودة، و بيانات الحكومة و تصريحاتها الصريحة و الضمنية تظل مفيدة لتحليل السياسات المعلنة من قبلها.


المطلب الثاني: مشاكل تقييم السياسات العامة
يعد تقييم السياسات العامة فائدة لصانعي السياسات و لمديريها و لنقادها خاصة منهم الذين يحرصون على  ضبط مواقفهم، إذ يسعى التقييم إلى تحديد علاقات السببية (السبب – النتيجة)  و يقيس النتائج و الآثار الناجمة عن السياسة، و طبيعي أن القياس المادي  و الكمي يعد مستحيلا، لدا فتقييم الآثار المترتبة على السياسات يكون أكثر موضوعية.
و التقييم ليس بالعمل السهل أو البسيط، فتقرير ما إذا كانت السياسة محققة لأغراضها أم لا، لا يعد عملا يسيرا. فكل شخص يمكنه أن يطرح اجتهاده حول السياسات دون أن يفحصها، و هذا ما يفعله الكثيرون، فقيمة مثل هذا الإجتهاد قياسا بما تحققه أو لما هو واقع قد تكون هزيلة او لا شيء.
عدم التأكيد من أهداف السياسات عندما تكون أهداف السياسة غير واضحة أو مشوشة أو متشعبة كما هو الحال في الغالب، فإن تقرير الحد الأدنى  الذي حققته  مما هو مقرر لها سيكون صعبا و عملا مخيبا أو محبطا[14].
و هذه الحالة هي في الغالب نتاج عملية إقرار السياسات و تشريعها. فلأن الأغلبية  مطلوبة في التصويت على السياسة، فإنه غالبا ما تتم مراعاة و ترضية العديد من الأطراف أفرادا و جماعات ممن لهم مصالح في السياسة، و ذلك على الرغم من تباين مواقفهم و منطلقاتهم. فالإلتزام و الإعتراف بأهداف هذا العدد الكبير من أصحاب العلاقة غالبا ما يراعي عند صياغة السياسة ليسهل تشريعها من قبل الجهات المشرعة لضمان التصويت عليها. و نموذج مدونة السير خير مثال على ذلك. فمن بين الأهداف التي روعيت فيها مثلا، الحفاظ على أرواح و ممتلكات مستعملي الطريق. و لكن لم تعط لهذه الأهداف أولويات أو تفضيلات، و الموظفون في المواقع المختلفة للنظام لهم نظراتهم المختلفة في تقييم النتائج المتحققة – و إن باكرا – من هذه السياسة.
و سنعطي هنا بعض الإكراهات التي تحول دون الوصول إلى تقييم بناء للسياسات العمومية(الفرع الأول) على أن نتحدث بعد ذلك على عمليات تقييم السياسة (الفرع الثاني)
الفرع الأول: إكراهات تقييم السياسة العامة
ü                     السببية: التقييم يتطلب مراعاة التغيير الذي تحدثه السياسات في الظروف العامة و في المجالات التي دعت إلى رسم السياسة، و لكن مجرد إثبات أن المطلوب قد أنجز، لا يعني أن علاقة السبب بالنتيجة قد وضحت. فبعض الأشياء قد تحدث بسبب السياسة أو بدونها، فمثلا
و لتوضيح العلاقة بين السبب و النتيجة سنعطي مثال الهذر المدرسي، فالغرض من السياسة العامة في هذا المجال هو محاربة الجهل. و المحاربة تعني إقبال التلاميذ على المدارس كما قد تعني عدم استغلال الأطفال، و لكن هل ارتفاع نسبة الإقبال تعود إلى  توزيع الحقائب المدرسية على المتمدرسين؟ الجواب يتوقف على توفير أكثر من ظرف أو سبب يعود له هذا الإرتفاع من عدمه، منها مثلا التنشئة العائلية، الدوافع الفردية توفر وسائل النقل خاصة بالقرى. و لذلك يمكن القول بأن موضوع السببية بين الأفعال يبقى مهمة صعبة لا سيما في الوقائع الإجتماعية و الإقتصادية المعقدة.
ü                     تشتيت آثار السياسة: قد تشمل السياسة أفرادا و شرائح غير الذين توجه إليهم هذه السياسة. فبرنامج مكافحة الفقر  قد يقيد شرائح من غير الفقراء مثل بعض الموظفين من دوي الدخل المحدود ، و الآثار على هؤلاء قد تكون مادية أو معنوية و مثاله عدم استفادة أبناء بعض الموظفين من ذوي الأجور المتدنية من المنحة الدراسية. و قد تكون الآثار متحققة حتى للذين يستلم أبنائهم المنح باعتبارهم فقراء، فهم يشعرون بعدم الإرتياح النفسي أو ضعف الثقة بالنفس. و يظل الإحتمال قائما بعدم وجود أهداف محددة للسياسات، أو أن بعضا من الأهداف لا تعلن رسميا.
ü                     صعوبة الحصول على المعلومات: قد يعيق نقص المعلومات و البيانات الإحصائية تقييم السياسات العامة. فقانون المالية الذي يقضي بخفض الضرائب من شأنه أن يحفز النشاطات الإقتصادية، غير أن البيانات الإحصائية المؤيدة بهذه العلاقة بين المتغيرين قد يتعذر الحصول عليها.
و حول العديد من السياسات الإقتصادية و الإجتماعية  يطرح السؤال التقليدي الآتي: هل الذين يساهمون في البرنامج يكونون أكثر عدالة و حيادا من الذين لا يساهمون فيه؟ إن الجواب يستلزم إجراء أبحاث و إحصائيات للتأكد من الأمر، إلا ان اعتماد عينة على غرار ما يتم في العلوم الطبيعية أمر مستحيل بداهة بسبب تأثر السلوك الإنساني بالعديد من المتغيرات و العوامل النفسية و الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية التي يتعذر عزلها، كما أن السلطة قد تمنع من استخدام مثل هذه المحاولات.
ü                     المقاومة الرسمية: إن تقييم السياسة يتضمن طرح اجتهادات شخصية توضح كفاءة السياسة، وهذا الأمر صحيح حتى حين يكون المقيم أستاذا جامعيا ممن ينسبون لأنفسهم الموضوعية في توليد المعرفة و صياغتها، و تتحمل الإدارة المنفذة و موظفوها النتائج السياسية المترتبة على التقييم. و حين تكون النتائج أو الحصيلة المعطاة للبرنامج غير جيدة أو دون ما هو متوقع منها فإن سمعة الإدارة و نفوذها و ربما مستقبلها سيتعرض للخطر.
و تلافيا لذلك فإن الإدارة أو بعض موظفيها، ربما تفشل عمليات التقييم أو تحجب إعطاء معلومات أو تمتنع عن التعاون مع الجهة المقيمة، أو تحول دون إكماله.
و كثيرا ما تشتد الرغبة لدى المستويات العليا في الإدارة أو الذين يتولون صنع القرارات بإحلال الموارد و زيادتها بإجراء التقييم لتكون خياراتهم و قراراتهم مدروسة  أو معتمدة على هده التقييمات، لكنهم قد يحجمون عن طلب التقييم إذا كانت توقعاتهم عن التقييم سلبية.
و أخيرا لابد من الإشارة إلى أن بعض المنظمات تميل لمقاومة التغيير و هي تعلم بأن التقييم يلزمه التغيير، و هكذا قد تصبح المقاومة الكامنة أو الضمنية معرقلة للتقييم لترمي بثقلها إلى حالة المقاومة المعلنة أو الظاهرة.
ü                     التقييم غير المؤثر: قد يوجه النقد إلى التقييم بعد اكتماله بحجة عدم دقته أو شموليته و عندها تهمل نتائجه، فالذين يهمهم البرنامج المقيم كمديرين أو كمنتفعين لن يفقدوا حماسهم و تأييدهم له لمجرد أن كلفة التقييم عالية، أو أنها تفوق ما يقدمه من منافع، إضافة إلى أن التقييم ذاته قد يكون خاطئا، مع العلم أنه لم يسبق أن تمت تصفية برنامج حكومي على ضوء تقييم سلبي أعطي له. و من الطبيعي أن التقييم عادة ما ينتهي إلى مقترحات تطور أو تغيير من محتوى البرنامج و هو ما يفترض بكل التقييمات أن تتوصل له.
الفرع الثاني: عمليات تقييم السياسة العامة
تقييم السياسات العامة يتم بالفعل على نطاق الحكومة و بطرق مختلفة و من قبل جهات متعددة، و أحيانا يكون التقييم دوريا و نظاميا، بينما يكون في أحيان أخرى طارئا و مفاجئا. قد يكون التقييم مؤسساتيا و له أجهزة متخصصة كما يمكن أن يكون غير رسمي و ليس له إطار مؤسساتي، و سنتناول هنا أهم أشكال التقييم الرسمي للسياسة و سنقتصر على تلك التي يقوم بها البرلمان و كذا تلك التي تقوم بها بعض الإدارات.
ü                     الإشراف و المراجعة البرلمانية: إن من بين المهام التي يقوم بها البرلمان الإشراف و المراقبة، و هي تقتضي الإطلاع على التطبيقات و الممارسات الإدارية المنفذة للسياسات العامة و للقوانين الصادرة عنه و تقييمها.
و الإطلاع هنا ليس نشاطا مستقلا أو منعزلا بذاته و إنما يرتبط و يتصل بكل مراحل عمل المجلس، كجمع المعلومات أو تخصيص الإعتمادات، و إشراف البرلمان و اطلاعه يمكن أن يتم بعدة تقنيات منها:
·        الأسئلة الخاصة التي يلقيها النواب أو المستشارون و التي تهم الناخبين؛
·        لجان التحقيق؛
·        دراسات اللجن الفنية.
و من خلال هذه الأساليب يتوصل البرلمان إلى تقييم السياسات و البرامج و يتوصل إلى النتائج المتحققة منها، و إشراف البرلمان يعتبر موزعا و جزئيا أكثر منه مؤسساتيا و دوريا و مترابطا.
ü                     المجالس الجهوية للحسابات: و تعتبرا ذراعا للبرلمان، مهمتها تدقيق الحسابات الإدارية و تقييم برامجها - خاصة بعد تبني ما اصطلح عليه بميزانية الأهداف – و رفع تقاريرها إلى الجهات المختصة (البرلمان ، الوزارة الوصية أو وزارة المالية) و قد أصبحت الآن مسولة عن تقييم آداء المشروعات بعد أن كانت ترتكز سابقا  على تدقيق الحسابات.
ü                     الإدارات الحكومية: كثيرا ما تقوم الإدارات بتقييم برامجها إما بمبادرة منها أو بإيعاز من خارجها (خاصة صندوق النقد الدولي، الأمم المتحدة...) و يهدف هذا التقييم إلى:
·        تقرير الأهداف الحكومية على أساس دقيق ضمانا لاستمرارية برنامجها؛
·        المفاضلة بين الأهداف البديلة لاختيار أكثرها أهمية؛
·        البحث عن بدائل مناسبة للوصول للأهداف المنتقاة؛
·        تحديد النفقات المتوقعة للسنة أو السنوات المقبلة؛
·        قياس الأداء للتأكد من تحقيق المنفعة.
خاتمة المبحث
يبقى معنا في الختام أن نشير إلى أن التقييمات غالبا ما تؤكد أن السياسات العامة لا تحقق الأغراض التي خطط لها، و لا تحدث الآثار المرجوة منها. و تنسب السسب في ذلك إلى:
1.     عدم كفاية الموارد المخصصة للتعامل مع المشكلة أو الظاهرة المطلوب حلها و معالجتها؛
2.     أن السياسات العامة قد تدار بطريقة تقلل من آثارها؛
3.     إن أسباب المشاكل العامة غالبا ما تكون متنوعة و متعددة و أن بعض السياسات تتطرق لواحد أو لعدد من هذه الأسباب  و تغفل أخرى؛
4.     أن الجمهور قد يستجيب أو يتكيف مع السياسة بطريقة تخفف من تأثيرها و تحد من نتائجها؛
5.     للسياسات أحيانا أهداف غير متماثلة و ربما متعارضة مما يجعل تحقيقها معا أمرا متعذرا؛
6.     إن حلول بعض المشاكل قد تتضمن تكاليف تفوق المشاكل؛
7.     أن بعض المشاكل التي تعالجها السياسات تكون غير قابلة للحل أو أنها بطبيعتها كذلك؛
8.     إن بعض المشاكل التي تعالجها السياسة تتغير طبيعتها أثناء وضع السياسة؛
و أخيرا فإن مشاكل جديدة قد تظهر و يكون لها تأثير عميق يتحول الإهتمام نحوها على حساب المشاكل السابقة التي وضعت السياسة من أجلها.
ففيما تعالج بعض المشاكل بصفة كلية فإن عددا آخر منها قد يعالج بصفة جزئية، أو يظل بلا علاج. فبرنامج محاربة الهذر المدرسي لا يمنع من وجو عازفين عن التمدرس، و برنامج مراقبة الأسعار لا يمنع من تصاعدها كليا.


الخاتمة
تطرقنا في هذا العرض إلى تحليل و تقييم السياسات العامة باعتبارهما مكملتان و لحقتان لصتع السياسة، غير أن هذا التحليل و التقييم كما يرى أغلب المختصين لم يترك أثره المباشر على متخدي القرارات ذات الطابع السياسي[15]، كما أن التحليل أو التقييم قد لا يغير موقف السياسيين و الإداريين. و لكن هذا لا يعني أن التحليل و التقييم غير ضروريان أو لا يجديان. و في النهاية فإن القلة يرون أن الذكاء لن يكون أفضل من الحدس و التأمل في تقييم السياسة العامة.
إن عامة الناس ، و الرسميون لهم انطباعاتهم حول آثار السياسة العامة و نتائجها، التي تجعلهم مناصرين أو معارضين لهذا البرنامج أو ذاك، أما السياسيون و الأحزاب السياسية فإنهم يتأثرون في تقييمهم لمحتوى البرامج و مضامينها استناد لردود أفعال ناخبيهم و ما تتركه مواقفهم نحوهاإزاء إعادة انتخابهم. و يقول رالف هوت (R. Huitt)  بهذا الصدد:"إن الإعتبار السياسي يأتي في المقدمة عندما تعطى المواقف للبرامج المقترحة و المقدمة للتشريع. فهل أنها ستصعد للقمة؟ و هل الشعب سيقف معها؟ و هل ستثير استجابة الجنسين نحوها؟ أما ما يتعذر فعله و تنفيذه فتكون درجة أهميته بعد هذه الإعتبارات"[16]



[1]دار المسيرة للنشر و التوزيع و الطباعة ص 3. صيغ السياسات العامة تأليف الدكتور جيمس أندرسون جامعة هيوستون نكساس ترجمة الأستاذ الدكتور عامر الكبسي،
[2] Richard Rose (ed) Policy Marketing in great Britian
[3] Carl J. Freedrich . Man and His Gouvernment (New York. Mac  Grow Hi 1963) p 79
[4] David Eslou, Asystems Analysis of Politcal life (New York , wile , 1965) p 212.
[5] Americain Political Science Review. I.XI ( September 1967) pp 701-16
[6] Yehezkel Dror , Public Policy making Reexamined (Scranton, Pa : Chandler, 1968) p 118
[7] Norman C. Thomas Rule9 : Politics Administration and Civil Rights (New York Rand House , 1966) p6
[8] Emmetts S. Redford, American Gouvernment and the Economy (New York) Macmillan, 1965) p.6
[9] T his discussion draws on charles E. lindblom, The policy-Making Process (Englewood Cliffs, N.J : Printice-Hall, 1968) p 44
[10] Ibid p 45
[11] Emmetts S. Redford, Democracy in the Administrative state (New York oxford University, 1978)pp 79-99
[12] Redford, Democracy in the Administrative state p 53
[13] John Dewey thePublic and Its Problems (Denver : Swalow , 1927) p 12-15-16
[14] Roger W. Cobb and Charles D. Elder « Participation in American Politics : the Dynamics of agenda setting » (Boston : Allyn and Bacon , 1972) p 85
[15] E.g Joseph S. Woley « Federal Evaluation Policy » p 12
[16] Relph K. Huitt. « Political Science and Public Policy » (Chicago : Markham. 1968)p 266

ليست هناك تعليقات