Page Nav

الهيدر

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

الجهوية والحكم الذاتي

يميز الفقه الدستوري من وجهة نظر قانونية، بالإعتماد على مصدر السلطة والسيادة داخل الدولة هل ينبع «من مركز واحد أو مراكز متعددة» (1) بين شكل...


يميز الفقه الدستوري من وجهة نظر قانونية، بالإعتماد على مصدر السلطة والسيادة داخل الدولة هل ينبع «من مركز واحد أو مراكز متعددة» (1) بين شكلين من الدول: الدول البسيطة، والدول المركبة. تكون ممارسة السيادة في الأولى مركزة في يد سلطة واحدة تنبع من المركز مع إمكانية إحداث هيئات محلية يعترف لها بالشخصية المعنوية و يوكل إليها تدبير القضايا والشؤون المحلية تحت وصاية الإدارة المركزية، وهو مايعرف باللامركزية الإدارية. بينما تتوزع هذه السيادة في النوع الثاني ( الدول المركبة) ، حيث نجد إلى جانب السلطات العامة التنفيذية والتشريعية والقضائية على مستوى الدولة 
الإتحادية سلطات مماثلة تمارسها كل دويلة من الدويلات المكونة للإتحاد، وهو مايفسر تسميتها باللامركزية السياسية، هذا النمودج تتبناه عدد من الدول الكبرى (الو.م.أ، كندا، ألمانيا، النمسا، بلجيكا...). بين هذين النوعين هناك شكل وسيط، أخذ من الإطار الإتحادي أو الفيدرالي بنياته وفلسفته دون أن يفرط في أهم أسس اللامركزية الإدارية ألا وهو شكل الدولة الموحدة، ينبني على توسيع الإستقلال الذاتي للمجلس الجهوي إلى المجال السياسي من خلال المرور من الجهة كوحدة إدارية محلية إلى الجهوية السياسية بوصفها أجلى صور الحكم الذاتي. إذن يمكن اعتبارالجهوية السياسية أقصى درجات اللامركزية في إطار الدولة الموحدة دون الوصول إلى مستوى الفيدرالية. هذا النمط الذي عرف تطبيقات ناجحة في العديد من الدول يطلق عليها الأستاذان «آلان دلكامب» و «جون لوغلان» (2) « les états a structure fortement régionalisés » ، ونستحضر هنا بشكل خاص نموذجين لا يمكن لأي باحث أن يتغاضى عنهما، نقصد التجربتين الإيطالية والإسبانية. سوف نركز كمحاولة للتعرف على هاتين التجربتين على بعض العناصر التي سوف تساعدنا على تجلية خصائص ومميزات كل تجربة على حدى، حيث سنتعرف على السلطات المعترف بها للجهات واختصاصاتها وهيكلتها وأخيرا العلاقة بين المركز والجهة. التجربة الإيطالية :

الدولة الجهوية l’Etat régional مر تطور الجهوية بإيطاليا بعدة أشواط انطلاقا من 1860، تعرضت خلالها لمجموعة من التقلبات والأخذ والرد(3)، توجت بصدور دستور 1948 الذي وضع أسس جهوية متطورة بعدما نجح في التوفيق بين الطرح المتحمس للأخذ باستقلال ذاتي واسع مقابل آخر يرى ضرورة الاكتفاء باستقلال ذاتي ضيق. حيث حسمت المادة الخامسة من الدستور هذا الجدل بتأكيدها على وحدة الجمهورية وعدم تجزئتها كما شجعت على الاستقلال الذاتي اللامركزي (4). الجمهورية الإيطالية حسب الفصل 114 من الدستور تنقسم إلى جماعات وأقاليم، مدن عاصمية ( Villes métropolitaines ) ،وجهات. بحكم السلطات والاختصاصات الواسعة التي أناطها بها الدستور، بالإضافة إلى الأجهزة والهيكلة المتطورة التي تتوفر عليها تعد الجهة بلا شك الوحدة الأبرز بين المستويات الأخرى. يصل عدد الجهات بإيطاليا إلى عشرون (20) جهة خمس منها لها نظام خاص، مما أدى إلى كون درجة الاستقلال ووظيفته ليست واحدة ، إذ يمكن التمييز بين جهات بصلاحيات جد موسعة وهي أساسا الجهات ذات النظام الخاص مثل : ساردينيا، صقلية، أديج العليا،...مقابل تلك ذات النظام العادي التي لا ترقى في درجة استقلاليتها والاختصاصات التي تمارسها إلى مستوى النوع الأول. بالرغم من ذلك فإن الجهات بإيطاليا تتساوى من حيث نوعية السلط والاختصاصات المناطة بها وكذا من حيث الأجهزة المكلفة بتفعيلها وترجمتها على أرض الواقع، فكل الجهات تضطلع بسلطة تشريعية تمارسها بواسطة مجالس جهوية يتم انتخابها بواسطة الاقتراع العام المباشر كما تتوفر على سلطة تنفيذية تشرف عليها هيئة تنفيذية تسمى «الجونطا» ( Junte ) تسير من طرف رئيس يتميز بوضع اعتباري متميز من منطلق كونه ينتخب في الغالب بواسطة الاقتراع العام المباشر عدا في حال إذا ما نصت القوانين والأنظمة الخاصة للجهة على عكس ذلك، ويعود إليه (رئيس الجونطا) تعيين الهيئة التنفيذية التي تشرف بجانبه على ممارسة مجموعة من الاختصاصات : كإعداد وتنفيذ الميزانية الجهوية، تفعيل القرارات المنبثقة عن مداولات المجلس الجهوي، بل إن مسؤولياته قد تصل حد اقتراح مشاريع قوانين تهم الجهة. بالعودة إلى الفصل 117 من الدستور الذي يتطرق لاختصاصات الجهة، يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات من الأنشطة العمومية. الأولى : ü تنصب المصالح الاجتماعية بما فيها النقل، الصحة العمومية، المساعدة الاجتماعية... الثانية : تعنى بإعداد التراب الجهوي، التعمير، الغابات والأشغال ü العمومية. الثالثة : تهم الأنشطة الاقتصادية المرتبطة مباشرة بأنشطة السكان ü المحليين، الفلاحة، التجارة، السياحة، المياه المعدنية... هذا وتظل هناك إمكانية لتوسيع اختصاصات الجهات في مجال التشريع في حدود معينة ولا يقيد حرية الجهة في ممارسة اختصاصاتها في المجالات المذكورة سوى ضرورة احترام المبادئ الأساسية للقوانين الوطنية وعدم المساس بمصالح الجهات الأخرى. لهذا الغرض أوكل للقضاء ممثلا في المحكمة الدستورية البث في الحالات التي يقع فيها تنازع في الاختصاص بين المؤسسات التشريعية الجهوية فيما بينها وفي علاقتها بالبرلمان المركزي، كما أوعز إلى «اللجنة المكلفة بالمراقبة الإدارية» برئاسة مندوب الحكومة ( Commissaire du gouvernement ) المراقبة الإدارية على أعمال الجهات وتبليغ القرارات التي ترى أنها غير مشروعة إلى المحكمة الإدارية للتثبت من شرعيتها. النموذج الإسباني : دولة الاستقلال الذاتي autonomies) (L’Etat des ارتبط ظهور الجهوية في إسبانيا بدستور دجنبر 1978 الذي كان ثمرة توافق ( Consensus ) بين كل الطوائف السياسية التي ساهمت في وضع تصورها عن الصيغة الملائمة للجهوية. تجب الإشارة إلى أن الجهة ليست الوحدة الترابية الوحيدة في إسبانيا، بل توجد إلى جانبها وحدات أخرى وردت في الفصل 137 من الدستور الذي ينص على كون «الدولة تنظم ترابيا إلى جماعات، أقاليم ومجموعات مستقلة، كل هذه الوحدات تتمتع باستقلال ذاتي لتسيير شؤونها الخاصة».لاشك أن الجهة (المجموعة المستقلة)تشكل أبرز هذه الوحدات، فالمجموعات المستقلة تتوفر على كل أنواع السلط( التشريعية، التنفيذية، القضائية)، تمارس عن طريق ثلاث أجهزة مقابلة تتمثل في الجمعية التشريعية التي تنتخب بواسطة الاقتراع العام المباشر بطريقة التمثيل النسبي، ومجلس الحكومة الذي يضم مجموعة من المستشارين برتبة وزير يمارسون مهام تنفيذية وإدارية ويرتبطون وجودا وعدما برئيس الحكومة الذي يرجع إليه أمر تعيينهم وإعفائهم من مهامهم، هذا الأخير (رئيس الحكومة الجهوية) يتم انتخابه من طرف الجمعية التشريعية من بين أعضائها ويعين بمرسوم ملكي. بالإضافة إلى الجهازين السابقين الذكر، نص الدستور على إحداث محكمة عليا للقضاء على المستوى الجهوي لا يحد من وظيفتها سوى ضرورة التزامها باحترام اختصاصات المحكمة العليا الوطنية. السلطات التي لدى المجموعات المستقلة والتي تضاهي تلك التي تتوفر لدولة كاملة السيادة فرضت التأكيد في الدستور الإسباني على شكل الدولة الموحد في الفصل الثاني منه. من بين الملاحظات التي تشد الانتباه في الدستور الإسباني الطريقة التي اعتمدها في تحديد اختصاصات المجموعات المستقلة، إذ ميز بين طريقتين : الطريقة السريعة لولوج الاستقلال الذاتي والاستفادة بالتالي من الاختصاصات المتضمنة في المواد 148-149 من الدستور(5). أما الجهات العشر الأخرى فيجب أن تمر من الطريقة البطيئة التي لا تخولها في مرحلة أولى تمتد لخمس سنوات سوى اختصاصات محدودة، ويجب انتظار انصرام هذه المدة كي ترتقي إلى مستوى الصنف الأول من حيث الاختصاصات والصلاحيات الممنوحة لها، إلا أنه مع مواثيق الاستقلال الذاتي ( Pacte autonomique ) ل 1992 وتعديلات 1994 التي مست الأنظمة الخاصة استطاعت المجموعات المستقلة التي تخضع للطريقة البطيئة ردم الهوة التي تفصلها عن مثيلاتها التي تتوفر على صلاحيات أوسع. اختصاصات المجموعات المستقلة تتميز بتباينها واختلافها من جهة لأخرى، فكل مجموعة مستقلة تضع اختصاصاتها في الحدود التي يرسمها الدستور دون أن تكون ملزمة بتحملها جميعا. هذا النوع من الاختصاصات يعرف بالاختصاصات المحجوزة وهي كما أشرنا تتميز بطابعها الاختياري وتشمل عدة مجالات تهم إعداد التراب، الأشغال العمومية ذات الفائدة الجهوية، التنمية الجهوية، السكك الحديدة والطرق المتواجدة داخل تراب الجهة، الفلاحة، الغابات، الخدمات الاجتماعية، تنسيق الشرطة المحلية... بالإضافة إلى الاختصاصات المحجوزة التي تستأثر المجموعات المستقلة بممارستها، هناك أنواع أخرى من الاختصاصات تشترك فيها مع الدولة تعرف بالاختصاصات المشتركة يمكن التمييز فيها بين حالتين: الحالة الأولى : تتكلف الدولة بوضع الأسس ü القانونية والإطار العام وتترك للمجموعات المستقلة التفصيل فيها بالشكل الذي يلائم كل واحدة منها. يشمل هذا النوع مجالات مثل الصحة، التعليم، البيئة... الحالة ü الثانية : ينحصر دور المجموعات المستقلة في العمل على تنفيذ القوانين التي يتم وضعها في المستوى المركزي والتي تخص مجالات مثل الجمارك، قانون الشغل... التي هي نفسها تطبق على صعيد كل التراب الإسباني. الطريقة المتبعة في توزيع الاختصاص فيما بين الجهات بالشكل الذي أوضحناه وبينها وبين الدولة من ناحية أخرى، والتي يشوبها نوع من التعقيد يجعل فرضية حدوث تنازع في الاختصاص أمر وارد، تحسبا لهذا الأمر تم الالتجاء إلى آلية القضاء الدستوري الذي يعرض عليه هذا النوع من القضايا للفصل فيه على أساس معايير قانونية وليس سياسية. أما السلطة المركزية فتظل ممثلة على المستوى الجهوي بواسطة مندوب للحكومة ( Délégué du gouvernement ) يتولى دور تنسيق الإدارة المدنية في نطاق الجماعة المستقلة وأيضا بين الإدارة المركزية والإدارة المحلية للمجموعات المستقلة. بعدما اكتشفنا السلط والاجهزة والصلاحيات التي تنبني عليها الجهوية في كل من إيطاليا وإسبانيا، يمكن الخروج بالإستنتاجات التركيبية التالية التي تلخص أهم مميزات الحكم الذاتي : الجهوية في كلا البلدين كانت محصلة لحراك سياسي، اجتماعي، اقتصادي، فكري ... استغرق فترة طويلة من الزمن. من المفارقات التي تشد الانتباه أن أغلب دول العالم وخاصة الأوروبية التي تعرف تطبيق تجارب جهوية متطورة _ومن بينها إيطاليا وإسبانيا_ مرت من فترات حكم كلياني ( Totalitaire ) يكفي أن نذكر «بالفرانكوية» في إسبانيا و»الفاشية» في إيطاليا. اقتران الجهوية بالديمقراطية، فالجهوية هي تعبير عن أجواء الديمقراطية التي تسود بلدا معينا باعتبارها شكلا من أشكال توزيع السلط بين المستويين المركزي و المحلي، وهي بالنتيجة تساهم في تكريس وتقوية أسس هذه الديمقراطية كثقافة وسلوك. تكيف الجهوية مع مختلف الأنظمة السياسية والامثلة كثيرة نذكر منها الملكية في إسبانيا و الجمهورية في إيطاليا. المساهمة في عكس والحفاظ على خصوصيات الجهات المختلفة وتحقيق التعايش فيما بينها. الحفاظ وصيانة وحدة الدولة من خلال التنصيص دستوريا على شكل الدولة الموحد. تكريس دولة الحق والقانون من خلال جعل الدستور الضامن الأساسي لحقوق والتزامات كل الأطراف وحدود ممارستها. الاعتراف بسلط واختصاصات حقيقية للجهات وتمكينها من الأجهزة والوسائل البشرية والمادية للنهوض بها وإمكانية مساهمة ذلك في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. الدور المحوري للقضاء في مواجهة كل الانحرافات التي قد تهدد بتقويض الأسس والمرتكزات التي تنبني عليها الجهوية. تكيف نظام الحكم الذاتي مع خصوصيات كل بلد، فعلى الرغم من الإلتقاء حول الأسس العامة لهذا النمط والتي تصب كلها في اتجاه الإعتراف للجهات باختصاصات هامة في إطار توزيع موسع للسلط، فهذا لايعني أن هناك نموذجا موحدا في التطبيق، فقد تباينت تجارب الدول التي أخذت به بشكل يتلاءم والاعتبارات الاقتصادية والسوسيوسياسية والسوسيوثقافية الخاصة بكل بلد و صيرورة التطور التي أفضت إلى الأخذ به.