Header Ads

ملخص من كتاب هوامش حول نظام الحكم في الإسلام

الفصل الأول من كتاب هوامش حول نظام الحكم في الإسلام
 للدكتور حامي الدين
المبحث ألأول مفهوم الدولة وطبيعتها في الإسلام :
المطلب ألأول مفهوم الدولة
التعريف اللغوي :
الدولة في اللغة بتشديد الدال مع فتحها أو ضمها ، العاقبة في المال والحـرب ، وقـيل : بالضم في المال ، وبالفتح بالحـرب ، وقـيل : بالضم للآخـرة وبالفتح للدنيا ، وتجمع على دول بضم الدال وفتح الواو ، ودول بكسر الدال وفتح الواو ، والإدالة الغلبة ، أديل لنا على أعدائنا أي نصرنا عليهم ، وكانت الدولة لنا.
ومن هذا المعنى جاء مصطلح الدولة نتيجة لغلبتها ، وإلا لما كانت دولة ، وقد ورد لفظ الدولة في القرآن الكريم في قوله تعالى : كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ الآية [سورة الحشر آية رقم : 7 .] .
التعريف الاصطلاحي :
تعرف الدولة بأنها ، شعب مستقر على إقليم معين ، وخاضع لسلطة سياسية معينة ، وهذا التعريف يتفق عليـه أكثر الفقهاء لأنه يحـتوي العناصر الرئيسة التي لا بد لقيام أي دولة منها ، وهي الشعب ، والإقليم والسلطة وإن اختلفوا في صياغة التعريف ، ومرد هذا الاختلاف إلى أن كل فقيه يصدر في تعريفه عن فكرته القانونية للدولة
هل الدولة من الإسلام؟
اختلفت الآراء في الفكر الإسلامي المعاصر حول الدولة الإسلامية، هل هي من الشرع في شيء، أم أنها من أمور الدنيا التي ما أمر بها الشرع ولا نهى عنها؟
أولاً: المانعين:
يقف على رأس المانعين د. علي عبد الرازق بكتابه الأشهر "الإسلام ونظام الحكم"، وفيه يقول: "..ولكنك إذا تأملت وجدت كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي المسلمين، من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أمثلة الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية..إن كل ما جاء به الإسلام شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير".
وفي موضع آخر من نفس الكتاب يقول: " والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها.." .
ثانياً: المؤيدين:
على الضد من موقف الفريق الأول، تقف طائفة كبيرة من علماء ومفكري الإسلام، الذين أجمعوا على أن الإسلام دين ودولة، وهم أكثر من أن يحصوا، بل لن تجد مفكرا ً مرجعيته إسلامية إلا ونادى بذلك، ولكن من المثير للاهتمام أن من المستشرقين من أيد هذه المقولة فمثلاً:
- "يقول د. فيتز جيرالد : "ليس الإسلام ديناً فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضاً".
- ويقول د. شاخت: " على أن الإسلام يعني أكثر من دين: إنه يمثل أيضاً نظريات قانونية
وسياسية، وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً".
ـ ويقول السير توماس أرنو لد: "كان النبي في نفس الوقت، رئيساً للدين ورئيساً للدولة" .

ثالثاً: القول المختار:
جاءت آيات وأحاديث عديدة تدل على وجوب إقامة الدولة الإسلامية:
"وأن احكم بينهم بما أنزل الله" المائدة:49 ،
"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" المائدة: 95،
"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" النساء: 59،
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" المائدة:44،
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" المائدة:45،
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" المائدة:47.
ومن الأحاديث الكثير الكثير، وسنكتفي هنا بإيراد هذا الحديث الذي يجعل الحكم عروة من عرى الإسلام مثله مثل الصلاة : عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة، تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة". رواه أحمد، وصححه الألباني .
لذلك كله نرى صحة الرأي القائل بأن الدولة من الإسلام.
بلا شك أن تحديد مفهوم الدولة في الشريعة الإسلامية يستلزم أولاً تحديد مفهوم الدولة في العلوم الاجتماعية والقانونية الحديثة ، لتوضيح مدى قرب وبعد المفهوم في الشريعة الإسلامية عنها . "
وأول عناصر التعريف هو أن الدولة كيان سياسي – قانوني . وينطوي هذا على حقيقة أنها بناء أو هيكل لـ " القوة " (
Power) تحكمه مجموعة من القواعد المقننة . ويتجسد هذا الهيكل في جهاز بيروقراطي مدني – عسكري – أمني . وتعني قواعده المقننة أن له صفات تتجاوز شخصا نية الأفراد الذين يديرونه من ناحية ، وشخصا نية الأفراد الذين يتعامل معهم هذا الجهاز من ناحية أخرى . فهناك تقنين لحقوق من يديرون جهاز الدولة وواجباتهم ، وتقنين لحقوق من يتعامل معهم جهاز الدولة وواجباتهم (المواطنون أو الرعايا) .
والعنصر الثاني في تعريف الدولة هو أنها ذات سلطات سيادية وينطوي هذا على أن هيكل القوة الذي تمثله الدولة ، نظرياً على الأقل ، أعلى هياكل القوة في المجتمع ، وله وحده دون هياكل القوة الأخرى مشروعية ممارسة هذه القوة ، بما في ذلك حق الاستخدام المنفرد للعنف . فرغم أن المجتمع قد يحتوي على تكوينات أخرى تملك وتمارس القوة (بمعنى القدرة على التأثير في سلوك الآخرين ، أو المشاركة في اتخاذ القرار وتوزيع الثروة) ، مثل الأحزاب والنقابات أو الطوائف والقبائل وغيرها من التنظيمات غير الحكومية ، إلا أن الدولة وحدها هي صاحبة الحق في استخدام هذه الوسيلة من وسائل القوة ، ألا وهي العنف .
العنصر الثالث في التعريـف هو " الاعتراف " بشرعية هذا الكيان السياسي القانوني ، داخلياً وخارجيـاً . والاعتراف داخلياً يعني أن أغلبية أفراد المجتمع يقـرون بحق هذا الكيان في ممارسة السلطة عليهـم . وهذا الإقرار قد يتراوح بين الحد الأدنى وهو الإذعان ، والحد الأقصى وهو التأييد والاعتزاز . والإقرار بالحد الأدنى يعني عدم مقاومة سلطة الدولة ، أما الحد الأقصى فهو التهيؤ والاستعداد لحماية هذه الدولة والتضحية في سبيلها . أما الاعتراف خارجياً فيعني الدول الأخرى ، أو بعضها على الأقل ، تقبل بوجود هذا الكيان في الأسرة الدولية أو النظام الدولي .
العنصر الرابع في التعريف هو شرط توافر الأرض أو الإقليم ، الذي تمارس عليه وفيه سلطة الكيان السياسي – القانوني . وهذا يعني أن لكل دولة حدوداً معروفة ، وعادةً ما يتوقف شرط الاعتراف الخارجي بالدولة على توافر هذا الشرط الجغرافي الأرضي ، وبخاصة من دول الجوار .
العنصر الخامس والأخير في تعريف الدولة هو شرط توافر البشر ، قل عددهم أو كثر ، الذين يعيشون بشكل شبه دائم على أرض (أو إقليم) الدولة . وعادةً ما يعرف هؤلاء البشر باسم الشعب (
People) أو المواطنين (Citizen) أو الرعايا (Subjects) .
إنّ وجود الدولة في الحياة البشرية ليس أمراً تقتضيه الحياة المعاصرة التي اشتدت فيها الحاجة إلى الحكومة، بل هي حاجة طبيعية ضرورية للإنسان الاجتماعي عبر القرون.
فإذاً الدولة حاجة طبيعية تقتضيها الفطرة الإنسانية بحيث يُعدّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها: إمّا متوحشاً ساقطاً، أو موجوداً يفوق الموجود الإنساني.
من تتبع سيرة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقف على أنّه قام بتأسيس الدولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، فقد مارس ما هو شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظم، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الأُخرى، وتنظيم الشؤون الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظم ذو طابع قانوني، وصفة رسمية، وصيغة سياسية، واتخاذ مركز للقضاء وإدارة الأُمور وهو المسجد، وتعيين مسؤوليات إدارية، وتوجيه رسائل إلى الملوك والأُمراء في الجزيرة العربية وخارجها، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أوّل مؤسس للدولة الإسلامية التي استمرت من بعده، واتسعت وتطورت وتبلورت، واتخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسسات وإن كانت الأُسس متكاملة في زمن المؤسس الأوّل(صلى الله عليه وآله وسلم .
المطلب الثاني: نظام الحكم في الإسلام :
الإسلام هو منهاج الحياة الكامل ، وهو الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة، هو روح مهيمن ونظام شامل ، نظام يتناول تحديد العلاقة بين العبد وربه، وبينه وبين نفسه، وبين جنسه وسائر ما يتصل به، ويتناول تحديد نظرته للحياة، ومسلكه فيها ، وتعيين ما له من حقوق ، وما عليه من واجبات.
وهو تزكية للنفس ، وتربية للخلق، وعبادة لله، وتنظيم للحياة، فيه تدبير المنزل ، ورباط الأسرة ، وحقوق الرحم، وقانون المجتمع وسياسة الدولة.
والمسلم مطالب بعلم ذلك والعمل به ، والإحسان فيه ، قال تعالى: " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك" (القصص:77).
ومن هنا يخطئ من يظن أن الإسلام دين روحانية وعبادة فحسب، ولا شأن له بتنظيم الحياة أو شؤون الدنيا ، وهو خطأ قد ينتهي بصاحبه إلى الكفر بما أنزل الله على رسوله ، فالله الذي أمر بتوحيده وعبادته ، وأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، هو الذي أحل البيع وحرَّم الربا، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وشرع القصاص ، وأنزل على رسوله : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" (المائدة:49).
الحكم أصل في الإسلام:
وبهذا تبين أن الحكم أصل في الإسلام، وأن الحكومة ركن في بنائه، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم عروة من عرى الإسلام الوثقى، ففي الحديث الشريف "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فأولها نقضاً الحكم، وآخرها نقضاً الصلاة...".
وقد ذكره كثير من الفقهاء في كتب العقائد والأصول، لا الفقهيات والفروع.
قال الإمام الغزالي رحمه الله: "... واعلم بأن الشريعة أصل والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع...". 

ضرورة الحكم :
1 ـ الحكم ضرورة اجتماعية: الإنسان مدني بالطبع، أي لا غنى له عن الاجتماع ببني جنسه، والناس مختلفو المشارب والمذاهب، والقوى والرغبات، فما لم يكن لهم وازع يزعهم، وسلطان يحكمهم، أكل قويهم ضعيفهم، وسادت الفوضى بينهم، وقد أحسن الشاعر قديماً تصوير هذه الحقيقة فقال:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ** ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ** فإن تولت فبالأشرار تنقاد
2 ـ الحكم ضرورة شرعية: فالإسلام منهج كامل، يشتمل العقائد والعبادات والآداب والفضائل والأحكام والحدود، وهذه العقائد والعبادات تحتاج إلى من يحرسها ، ويثبت دعائمها ، ويقيم شعائرها، وهذه الآداب والفضائل تحتاج إلى من يتعهد غرسها ، ويذود عنها، وهذه الأحكام تحتاج إلى من يقيمها ، ويفرض سلطانها وينفذها، ولا يتم الإيمان ولا يستقيم الأمر إلا بهذا، قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء : 65).
"فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" (المائدة:48)"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"(المائدة : 44).
فأوجب في هذه الآيات التحاكم إلى كتابه والإذعان له، والحكم به، وعدم الحكم بسواه، فصار من المتيقن أن يوجد في المسلمين حاكم يحرس عقيدة الأمة وشعائرها ، ويصون أخلاقها وفضائلها، وينفذ أحكام الله ، ويقيم حدوده، ويحكم بين الناس بما أنزل الله ؛ حتى لا تهن العقيدة ، وتضيع الفرائض، وتنحل الأخلاق، وتتعطل الأحكام والحدود، وتكون فتنة.
قال تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"الحج : 41).
فيتعين إقامة هذا الحاكم المسلم ليكون الظل الذي يفيء إليه المظلوم والمحروم، والحارس الذي يحفظ حدود الله ، ويحمي حرمات المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "...إنما الإمام جُنة يتقى به...". (متفق عليه في حديث أبي هريرة).
قال تعالى: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (المائدة:48).
ومن ثمَّ فهو عصمة الأمة، وجامع كلمتها، كما أنه نظامها وقانون سعادتها، وكل حكم أو نظام لا يقوم على أساسه أو يشذ عن أحكامه فهو باطل منهار. 


المطلب الثالث: النظام الدستوري لدولة المدينة:
دستور المدينة أو صحیفة المدینه: فور هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة المنورة كتب دستورًا تاريخيًا، وقد أطنب فيها المؤرخون و المستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني..
إن هذا الدستور يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين و الأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، يتصدى بمقتضاها المسلمون و اليهود وجميع الفصائل لأي عدوان خارجي على المدينة..
وبإبرام هذا الدستور –وإقرار جميع الفصائل بما فيه- صارت المدينة المنورة دولة وفاقية رئيسها الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل.

يقول المستشرق الروماني جيورجيو:
"حوا هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدت الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفقراء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده

بنود دستور المدينة
ومن ثم تعالوا نقف وقفات سريعة على أهم معالم القيم الحضارية التي نراها جلية في هذا الدستور:
أولاً: الأمة الإسلامية فوق القبلية:
قال الدستور في ذلك:
"إنهم [أي الشعب المسلم] أمة واحدة من دون الناس".
وبهذا البند اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم وأنسابهم إلى جماعة الإسلام، فالانتماء للإسلام فوق الانتماء للقبيلة أو العائلة، وبهذا نقل رسول الله العرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة.
ثانيًا: التكافل الاجتماعي بين فصائل الشعب:
وفي هذه القيمة كُتبت البنود التالية:
"المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين"
"وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
"وبنو سَاعِدَةَ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين...
"وبنو جُشَمٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين..
"بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين..
"وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ..
"وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ"
ثالثاً: ردع الخائنين للعهود :
وفي هذا الحق كُتب البند التالي:
"وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى سيعة ظلم أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم"
وهذا نص في جواز حمل السلاح على أي فصيل من فصائل المدينة إذا اعتدى على المسلمين..
وبموجب هذا النص حُكم بالإعدام على مجرمي قريظة – بعد معركة الأحزاب (في ذي القعدة 5 هـ/إبريل 627 م ) - ، لما تحالفوا مع جيوش الأحزاب الغازية للمدينة، وبغوا وخانوا بقية الفصائل، على الرغم من أنهم أبناء وطن واحد!

رابعا: احترام أمان المسلم:
وجاء في هذا الأصل الأخلاقي البند التالي:
"وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس."] .
فلأي مسلم الحق في منح الأمان لأي إنسان، ومن ثم يجب على جميع أفراد الدولة أن تحترم هذا الأمان، وأن تجير من أجار المسلمُ، ولو كان المجير أحقرهم.
فيُجير على المسلمين أدناهم، بما في ذلك النساء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم هانئ: " أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ "
خامسا: حماية أهل الذمة والأقليات غير الإسلامية:
وجاء في هذا الأصل:
"وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم"
وهو أصل أصيل في رعاية أهل الذمة، والمعاهدين، أو الأقليات غير الإسلامية التي تخضع لسيادة الدولة وسلطان المسلمين .. فلهم –إذا خضعوا للدولة– حق النصرة على من رامهم أو اعتدى عليهم بغير حق سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، من داخل الدولة أو من خارجها..
سادسا: الأمن الاجتماعي وضمان الديات:
وجاء في هذا الأصل:
"وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه"
وبهذا أقر الدستور الأمن الاجتماعي، وضمنه بضمان الديات لأهل القتيل، وفي ذلك إبطال لعادة الثأر الجاهلية، وبين النص أن على المسلمين أن يكونوا جميعًا ضد المعتدي الظالم حتى يحكم عليه بحكم الشريعة..
"ولا شك أن تطبيق هذا الحكم ينتج عنه استتباب الأمن في المجتمع الإسلامي منذ أن طبق المسلمون هذا الحكم"
سابعا: المرجعية في الحكم إلى الشريعة الإسلامية:
وجاء في هذا الأصل:
"وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله –عز وجل- وإلى محمد...
"وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره,
ثامنا: حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر مكفولة لكل فصائل الشعب:
وجاء في هذا الأصل:
"وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته"
تاسعا: الدعم المالي للدفاع عن الدولة مسؤلية الجميع:
وجاء في هذا الأصل:
"وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين"
فعلى كل الفصائل بما فيها اليهود أن يدعموا الجيش ماليًا وبالعدة والعتاد من أجل الدفاع عن الدولة، فكما أن المدينة وطن لكل الفصائل، كان على هذه الفصائل أن تشترك جميعها في تحمل جميع الأعباء المالية للحرب.
عاشرا: الاستقلال المالي لكل طائفة:
وجاء في هذا الأصل:
"وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم"
فمع وجوب التعاون المالي بين جميع طوائف الدولة لرد أي عدوان خارجي، فإن لكل طائفة استقلالها المالي عن غيرها من الطوائف.
الحادي عشر: وجوب الدفاع المشترك ضد أي عدوان :
وجاء في هذا الأصل :
"وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ".
"وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة".
وفي هذا النص دليل صريح على وجوب الدفاع المشترك، ضد أي عدوان على مبادئ هذه الوثيقة.
الثاني عشر: النصح والبر بين المسلمين وأهل الكتاب:
وجاء في هذا الأصل:
"وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم"
فالأصل في العلاقة بين جميع طوائف الدولة –مهما اختلفت معتقداتهم– هو النصح المتبادل، والنصيحة التي تنفع البلاد والعباد، والبر والخير والصلة بين هذه الطوائف.
وقد اشتملت الدستور على قيم حضارية أخرى منها:
الثالث عشر: حرية كل فصيل في عقد الأحلاف التي لا تضر الدولة:
وجاء في هذا الأصل:
"وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه"

الرابع عشر: ووجوب نصرة المظلوم:
وجاء في هذا الأصل :
"وإن النصر للمظلوم."
الخامس عشر: وحق الأمن لكل مواطن:
"إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول".
هذه بعض معالم الحضارة الإسلامية في دستور المدينة، تبين لك – كما رأيت – كيف سبق النظامُ الإسلامي جميع الأنظمة في إعلاء قيم التسامح والتكافل والحرية ونصرة المظلوم .. وغيرها من القيم الحضارية التي يتغنى بها العالم في الوقت الراهن دون تفعيل جاد أو تطبيق فاعل
المطلب الرابع: الحقوق السياسية للمرأة في الإسلام:
تمثل قضية المرأة سؤالاً كبيراً يطرحه النموذج الثقافي الغربي على النماذج الثقافية المغايرة في عالم اليوم وفي مقدمتها النموذج الثقافي الإسلامي، وذلك في محاولة منه لإحراجها ودفعها نحو الإحساس بالدونية، ومن ثم الاستعداد للتنازل عن خصوصيتها وتقبل الطرح الغربي كما هو دون أي تمحيص أو تعديل أو نقد.
وقد حظي النموذج الثقافي الإسلامي بشتى الاتهامات التي أقلها هضم حقوق الإنسان بشكل عام، والاعتداء على حقوق المرأة وامتهان كرامتها بشكل خاص، ويمكن القول أن تصاعد هذه الاتهامات في الآونة الأخيرة يعود إلى سببين اثنين:
أولهما:- المواقف المتذبذبة التي ظل المفكرون المسلمون يتخذونها تجاه مختلف القضايا التي يطرحها النموذج الغربي منذ عصر النهضة، ومعالجتهم لها من منطلقات المقاربات والمقارنات والدفاع والتأويل والتفسير، وهو ما لم يجد شيئاً في وقف سيل الأسئلة المثارة حولها.
وثانيهما:- اتخاذ دول الحضارة الغربية لقضية المرأة مدخلاً رئيسياً لإحداث التغيير في المجتمعات غير الغربية، وتحطيم خصوصيتها وتفكيك بناها التحتية، تمهيداً لدمجها القصري في عملية العولمة بأبعادها
المختلفة. ويبرز هذا الموقف الغربي في المؤتمرات الدولية التي تبحث في قضية المرأة وما ينبغي أن تكون عليه أوضاعها، وقد نجحت في إصدار وثيقة دولية خاصة بحقوق المرأة من خلال الأمم المتحدة وربطت تقديم المساعدات والقروض بقبول هذه الوثيقة وتنفيذها، وبالطبع فإن النموذج الغربي يقدم نفسه في هذه الوثيقة وغيرها باعتباره المقياس الذي ينبغي أن تقاس إليه كل السلوكيات الثقافية والحضارية.
مجالات العمل السياسي للمرأة في الرؤية الإسلامية
لقد أكدت الرؤية الإسلامية على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وهذا أمر تقتضيه الفطرة الإنسانية والعدالة التي أكدت على أن يعطى كل إنسان كامل حقوقه، وأول هذه الحقوق حق العمل السياسي، فقد شاركت المرأة المسلمة في نصرة العقيدة الإسلامية بمالها (خديجة بنت خويلد مثلاً) وكافحت عقائدياً (فاطمة أخت عمر بن الخطاب) وناضلت جسدياً (سمية أول شهيدة في الإسلام) واشتركت في الهجرة إلى الحبشة والمدينة وحضرت بيعة العقبة وكل غزوات المسلمين. وإذا كانت المرأة المسلمة لم تحكم بشكل مباشر فأنه كان ضمن سياق تاريخي معين لا ضمن تشريع إسلامي، وجميع الذرائع التي يتذرع بها المعادون لعمل المرأة السياسي ينقصها الحجة والبيان وجاءت نتيجة الانهيار الحضاري العام الذي عانت منه الأمة لأكثر من ألف عام، وضرب الله قصة مريم وبلقيس وامرأة فرعون مثلاً للمؤمنين يحتذى به.
وفي هذا السياق فإن أهم مجالات العمل السياسي للمرأة في الرؤية الإسلامية ما يلي:-
أولا:- البيعة العامة (الانتخاب)
ثانياً:- الولايات العامة(حق الترشح للمناصب العامة)
ثالثاً: الشورى
رابعاً:- التنشئة والتغيير السياسي

المطلب الخامس: نظام البيعة في الإسلام:
لقد تفرَّدت الحضارة الإسلامية عن مثيلاتها من الحضارات الإنسانية؛ فمما أبدعته هذه الحضارة، وقَدَّمته سائغًا ميسورًا للمسلمين وغير المسلمين "نظام البيعة". واللافت للنظر في هذا، أن الحضارات السابقة لم تعرف نظام البيعة على الإطلاق، فإذا كانت البيعة تعني "المُبايعةُ والطاعةُ"، فإنها من جانب آخر تعني إشراك الرعية في المنظومة السياسية الحاكمة، ولو بقدر ضئيل كما في بعض أوقات التاريخ الإسلامي؛ بيد أنها كانت من أهم مميزات النظام السياسي الإسلامي
الفلسفة السياسية للبيعة
تقوم فلسفة البيعة على تمكين الأمة بالأساس لا تمكين الخليفة؛ فالبيعة هي الوجه الآخر للشورى، بل هي إحدى صورها، وهي ليست ممارسة قهرية بل اختيارية حرة، والالتزام الديني ببيعة وفق حديث "من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية"؛ يعني ببساطة أن البيعة وإدارة تولي السلطة ووجود إدارة سياسية في المجتمع الإسلامي تنظم شئونه وتدير مصالحه هو شرط التمدن الإسلامي وتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع، وبالتالي تعود الجاهلية، وهي لا تعني أن محض المبايعة يضمن عدم الوقوع في الجاهلية، فقد تبايع الأمة من ينتهي به الأمر لتعطيل الشرع ونقض مصالح الشعب والتحالف مع أعداء الإسلام ضد شعوب إسلامية أخرى؛ لذا يجب النظر للبيعة دوما باعتبارها فرعا عن أصل وهو الشورى، ومقيدة بمقاصد الشرع ومصالح الأمة، وإلا وجب الخروج واستبدال الحاكم وتأسيس نظام حكم آخر ببيعة جديدة وعقد سياسي جديد. وهناك حدود شرعية لتفعيل البيعة كآلية لانتقال السلطة سلميا ومدنيا في الفقه الإسلامي،
المطلب السادس: إضفاء الصبغة الدينية على الخلافة:
أسفر تنازل الإمام الحسن عن الحكم لصالح معاوية بن أبي سفيان، عن نهاية عهد الشورى والخلافة الحقيقية، وبدء قيام الدولة العربية الملكية على أساس القوة والإكراه. ومع أن معاوية أطلق على عهده شعار (الجماعة) إلا انه في الحقيقة لم يمثل الأمة أو الجماعة، ولم يلتزم بتحقيق أهدافها الإسلامية السامية. وقد أعلن معاوية عن ذلك بصراحة عندما وقف في الكوفة وقال لأهلها متحدياً: "يا أهل الكوفة: أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟ لكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وانتم كارهون"
إضفاء صبغة الخلافة الدينية على الملك
اعتبر السلف أو الجيل الإسلامي الأول ، سيطرة معاوية بن أبي سفيان على السلطة بالقوة، وسن نظام الوراثة في الحكم، انقلاباً على أهم مبادئ الخلافة وصفاتها الضرورية، وتحولاً نحو القيصرية والكسروية. فقد كان هناك خيط فاصل بين الخلافة والملك، هو العدل والشورى ورضا الأمة بالإمام، وعندما كان أي حاكم ينتهك هذا الحد ، حتى لو كان منتخباً من الأمة، فانه كان يفتقد صفة الخلافة. فكيف إذا قام حكمه من الأساس على الظلم والقوة والاغتصاب؟
ولم يكن مقبولاً ولا معقولاً إطلاق صفة "الخلافة" واسم "الخلفاء" على الحكام الملوك المنقلبين على حقيقة الخلافة، الذين كانوا يعتمدون على القوة أو الوراثة في وصولهم الى الحكم. ومن هنا كان أئمة المسلمين الأوائل من السنة والشيعة يعتبرون تلك الأنظمة أنظمة ملكية بحتة وظالمة، وكانوا يقصرون صفة الخلافة على تجربة الخلفاء الراشدين فقط. فقد روى الامام أحمد بن حنبل والإمام أبو الحسن الأشعري حديث "الخلافة ثلاثون سنة". وقام محمد بن عبد الله ذو النفس الزكية بثورة على المنصور، وحظي بدعم الإمام مالك الذي أفتى بعدم صحة طلاق المكره، ليحل الناس من بيعة المنصور التي تمت بالإكراه، وأفتى الامام أبو حنيفة بجواز تقديم الدعم المادي له
ولم تنشأ فكرة "الخلافة الدينية" أو يتم إطلاقها على "الخلفاء" الأمويين والعباسيين ومن بعدهم، إلا في وقت متأخر في العهد العباسي الثاني، حين حاول بعض الحكام العباسيين إضفاء صبغة شرعية دينية على نظام حكمهم، وقام بعض الفقهاء بالتنظير لهم، واعتبار كل الحكام منذ وفاة رسول الله الى زمانهم "خلفاء" بدرجة أو بأخرى، والقول بضرورة استمرار سلسلة الخلافة الى يوم القيامة.
ولكي يضفي الماوردي على الخلافة هالة قدسية ويحولها الى منصب ديني، قام باختيار الرأي القائل بوجوب الخلافة عن طريق الشرع، وليس العقل. ورفض الرأي القائل بوجوبها عن طريق العقل:"لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم"... وذلك لأن
الشرع فوض الأمور الى وليه في الدين. كما قال الله عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم..). النساء 59
وأورد التفتازاني حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) كدليل على وجوب الخلافة عن طريق الشرع.
ولم يقتصر الأمر على إضفاء صبغة الخلافة على الأنظمة اللاشرعية، وإنما تمت تغطية كثير من القوانين الاستبدادية باسم الدين، وبناء فكر سياسي جديد يدعو الجماهير للخنوع والاستسلام ويعطي الحكام صلاحيات ديكتاتورية مطلقة.

المبحث الثاني: مبادئ النظام السياسي والدستوري
المطلب الأول: الشورى
أشيروا عليَّ أيها الناس).. كلمة قالها النبي ( وبعدها قال الصديق أبو بكر كلمته، وقال عمر بن الخطاب كلمته، ونطق المقداد بن عمرو بكلمات خالدة قال: امض بنا يا رسول الله لما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فاستبشر النبي خيرًا، وتوجه إلى الأنصار يطلب رأيهم، فنطق سعد بن معاذ -رضي الله عنه- بأعظم كلمات، بايع فيها الله ورسوله على التضحية من أجل دين الله. قال سعد: امض بنا يا رسول الله، فوالله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، إنا لصُدقٌ في القتال، صُبُرٌ في
الحرب، ولعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك. فزاد فرح النبي (واستبشاره، فانطلق بأصحابه ليقاتل أعداء الإسلام في غزوة بدر الكبرى.
الشورى في الإسلام
والشورى في الإسلام حق للأمة وواجب على الحاكم، وهي نظام سياسي واجتماعي، وحلقة وصل بين الحاكم ورجاله. والشورى مبدأ أساسي من مبادئ الإسلام، وليس هذا فحسب، بل إن الإسلام جعلها من صفات المؤمنين الصالحين، حتى إنها وردت في السياق القرآني الكريم بين ركنين عظيمين من أركان الدين هي الصلاة والزكاة، قال تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} [الشورى: 38].
وكانت الشورى من أهم صفات الرسول (، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله () [الترمذي]. واستشار رسول الله ( الناس في الأسرى يوم بدر، فقال: (إن الله أمكنكم منهم). فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه رسول الله (، فقال أبوبكر -رضي الله
عنه-: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. [أحمد].
ومن الدلائل التي تدل على أهمية الشورى في الإسلام أن الله سبحانه وتعالى أمر بها رسوله الكريم، فقال تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} [آل عمران: 159]. وأكد عليها الرسول الكريم (، فقال: (المستشار مؤتمن)
[ابن ماجه]. وقال: (إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه) [ابن ماجه]. وقال: (من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه) [أحمد].
والرسول ( لم يُحدد مَنْ يخلفه في قيادة الدولة الإسلامية وإنما ترك ذلك للمسلمين بعد أن يتشاوروا على من يرضونه خليفة لرسول الله. وسار الخلفاء الراشدون على سنة الرسول (، فعن عمر بن الخطاب قال: (من بايع رجلا أميرًا عن غير مشورة من المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه) [البخاري].
خصائص الشورى وحدودها في الإسلام
وللشورى في الإسلام خصائص وحدود منها:
* أنها جزء من الدين، وطاعة لله، وقدوة صالحة يؤمر بها الأنبياء قبل غيرهم؛ حتى لا يتعاظم عليها من يدَّعون النزاهة والأهلية والفقه، فليس بعد الأنبياء في الصلاح والعصمة أحد. فالشورى هي السبيل إلى الرأي الجماعي الذي فيه خير الفرد والمجتمع. قال (: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة) [ابن ماجه].
* أن الشورى يجب أن تتم في إطار الشريعة، وأن تقوم على أخوة المسلمين وتراحمهم، وعلى أنهم أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي عليها نشر الإيمان بالله على أساس التطابق الكريم بين الغاية والوسيلة.
* أن الشورى عبادة وبحث عن الحق والصواب، ووسيلة للكشف عن المواهب والقدرات، واختبار لمعادن الرجال، وجمع للقلوب وتأليف بينها على العلم والخير والإيمان، وتربية للأمة، وبناء لقواها الفكرية، وتنسيق لجهودها، وإفادة من كل عناصرها، وإغلاق لأبواب الشرور والفتن والأحقاد.
* أن الشورى توحيد للجهود وربط لجميع مستويات الأمة برباط من نور؛ لما فيه قوتها وتماسكها، وعزة الإسلام ورفعة رايته. قال الحسن: ما تشاور قوم إلا هُدُوا لأرشد أمرهم.
ومع الاتفاق حول هذه الخصائص والحدود فقد ترك الإسلام للمسلمين حرية تطبيق الشورى؛ وذلك وفق ظروفهم وخصائص حياتهم، ولكن شرط عليهم أن يتم ذلك التطبيق في إطار المنهج الذي وضعه الله لهم وطبقه رسوله الكريم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين. 

المطلب الثاني: العدل
العدل بمفهومه الإنساني هو إعطاء كل ذي حق حقه ولأهميته ومنزلته ، بعث الله رسله وأنزل كتبه ، لنشره بين الناس على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم .
العدل صفة خلقية كريمة تعني التزام الحق والإنصاف في كل أمر من أمور الحياة ، والبعد عن الظلم والبغي والعدوان.
وقد ورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم : ( تعدل بين اثنين صدقة )
فاتقوا الله عز وجل فهي مفتاح كل خير، وهي مفتاح العدل
ولأهمية العدل في الإسلام في كونه صفة من صفات الله تعالى ومن القيم الأساسية التي حث عليها القرآن و كررها في العديد من الآيات، أمر الله به عباده في آيات كثيرة من كتابه العزيز وبين محبته لأهله فقال عز وجل:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ( المائدة / .
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وقال سبحانه: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً
وقال سبحانه مبينا وجوب العدل في كافة الأحوال دون مراعاة لقرابة أو عرف أو غير ذلك من الاعتبارات الأرضية الجاهلية :
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا - النساء/ 135 .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية :
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل دون أن تأخذهم في الله لومة لائم شهداء لله أي أدوها ابتغاء وجه الله فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين أي اشهد بالحق ولو عاد ضررها عليك أو على الوالدين والأقربين لا تراعهم فيا إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقر فالله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أي لا يحملنكم الهوى والمعصية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم وفي هذا الحق يتساوى عند الله عز وجل المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأعداء والأصدقاء والأغنياء والفقراء، وليس الأمر مجرد مثاليات نظرية لا تجد سبيلها في التطبيق العملي ..

المطلب الثالث: الحرية
جعل الإسلام "الحرية" حقاً من الحقوق الطبيعية للإنسان، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية، وحين يفقد المرء حريته، يموت داخلياً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض. ولقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن "الحرية" أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله تعالى هو العقل الحر، الذي لا ينتظر الإيمان بوجوده بتأثير قوى خارجية، كالخوارق والمعجزات ونحوها قال تعالى:((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) فنفي الإكراه في الدين، الذي هو أعز شيء يملكه الإنسان، للدلالة على نفيه فيما سواه وأن الإنسان مستقل فيما يملكه ويقدر عليه لا يفرض عليه أحد سيطرته، بل يأتي هذه الأمور، راضياً غير مجبر، مختاراً غير مكره.
المطلب الرابع: المساواة
تعد المساواة بين الناس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات، مبدأ أصيلاً في الشرع الإسلامي، ولم يكن هذا المبدأ على أهميته وظهوره قائماً في الحضارات القديمة، كالحضارة المصرية أو الفارسية أو الرومانية؛ إذ كان سائداً تقسيم الناس إلى طبقات اجتماعية، لكل منها ميزاتها وأفضليتها، أو على العكس من ذلك، تبعاً لوضعها الاجتماعي المتدني.
ولقد كانت التفرقة بين البشر في المجتمعات القديمة، تستند إلى الجنس واللون، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والحرية والعبودية، وكانت طبقة الحكام ورجال الدين من الطبقات المميزة، بل إن بعض المجتمعات -كالمجتمع الهندي مثلاً- كان يعرف طائفة المنبوذين، وكان محرماً على أفراد الطبقة أن ينتقلوا منها إلى طبقة أعلى، حتى ولو كانت ملكاتهم تتيح لهم ذلك.
إن التقوى معيار الكرامة الإنسانية عند الله -عز وجل- ومع ذلك فهي معيار الصلاح في الدنيا، وهو معيار حقيقي وعملي؛ إذ إن صلاح الإنسان في دنياه يجعله أفضل لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه من غيره الذي لا يفيد نفسه ولا مجتمعه بشيء.
وقد هدم الدين الإسلامي بهذا المعيار الحقيقي الذي يرتقي بحياة الإنسان والمجتمع كل المعايير الزائفة التي أشار القرآن الكريم إلى الكثير منها, حيث يقول الله تعالى في الإنكار على أصحاب المعايير الزائفة في التفاضل: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ(111) سورة الشعراء.مما يدل على أنهم لم يؤمنوا؛ لأن مَن هم أقل منهم قد آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقالوا:أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء (13) سورة البقرة.

خاتمة
تميز نظام الحكم في الإسلام عن غيره من الأنظمة القائمة حين تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة تميزاً تاماً. فقد كان النظام السياسي الذي أرساه النبي الكريم في دولة الإسلام الأولى، مغايراً للنموذج القبلي السائد في الجزيرة العربية، وكذلك كان مبايناً للنموذج الإمبراطوري السائد في فارس والروم، سواء من حيث الشكل أو المضمون، ما يعني أن الإسلام قد أتى بنظامٍ فريدٍ في الحكم من غير تأثر بما هو قائم، وأن ذلك النظام هو النموذج الوحيد الذي ينبغي تطبيقه، على اعتبار أنه يجسد أحكاماً شرعية تخرج من مشكاة النبوة مباشرة.

ويتميز نظام الحكم في الإسلام باستناده إلى الشرع الذي يسود كافة أرجاء المجتمع والدولة، في وحدة سياسية تصوغ الأمة على اعتبارها جماعة واحدة، تبايع خليفة واحداً على الحكم بكتاب الله وسنة نبيه. ولو توقفنا عند بعض الأحداث التي آلت إلى بناء دولة الإسلام، لوجدنا أن العمل على إقامة ذلك النموذج كان هدفاً تقصد النبي تحقيقه منذ بداية سعيه لإقامة الإسلام شكلاً ومضموناً.

فأما من حيث المضمون، فقد رفض النبي عرض سادة قريش الذين أتوه فقالوا له (إن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا)، ورفض النبي كافة الصفقات التي استهدفت التنازل عن الدِّين، كلِه أو جزءٍ منه.

وأما من حيث الشكل فقد أبى النبي الكريم قبول عرض قوم بني عامر بن صعصعة، بعد أن أتى إليهم، ودعاهم إلى الله تعالى، وعرض عليهم نفسه طالبا منهم النصرة لدينه، فأجابوه إلى ما أراد، إلا أنهم اشترطوا عليه قائلين: (أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ رفض (النبي الكريم) ذلك قائلاً: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقالوا له:...لا حاجة لنا بأمرك ، وأبوا عليه). وفي هذا المثال نجد أن النبي قد رفض التخلي عن أمر يتعلق بشكل نظام الحكم الذي يريد تحقيقه، حيث أن الإسلام قد اعتبر ضمن جملة من الأدلة الشرعية أمر السلطان راجع للأمة، تبايع هي من ترتضيه منها على شرط الحكم بكتاب الله وسنة نبيه.

ومن الجدير ذكره، أن النبي الكريم قام برفض تلك العروض المغرية في وقت كان يعاني فيه مع أصحابه ظروفاً غاية في الصعوبة والقسوة، حيث عادته قريشٌ وكانت أشد ما تكون عليه من خلافه وفراق دينه، فكانت تحبس من قدرت على حبسه وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين. وفي تلك الأجواء شرع النبي الكريم في طلب النصرة من أهل القوة بغية إيجاد قوة تسند الإسلام فتكون له حماية ووقاية وتمكيناً.

ويستفاد من ذلك الرفض النبوي المتكرر لتلك العروض، رغم حاجة الدعوة وحامليها الملحة لمن يؤويهم ويحميهم، أن النبي الكريم أراد تأسيس الدولة الإسلامية على منهج معين وضمن شكل معين باعتبارهما وحياً من الله تبارك وتعالى، وأنه لا خيار أمام العاملين لإقامة دولة الإسلام في وجوب التزامهما. ويظهر الثبات النبوي بشكلٍ جليٍ عندما طلب منه عمه أبو طالب مهادنة قريش وملاينتها، وأنه ما عاد قادراً على الصمود بوجه ضغوطهم، فرد الرسول الكريم عليه قائلاً (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه). وكان النبي الكريم يدعو ولسنوات طويلة وفود الحجيج والقبائل للإسلام، فيبدأ هؤلاء وأولئك بالاشتراط عليه ومساومته على أمره، فيقول لهم (فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).

وفي هذا السياق، تعتبر بيعة العقبة الثانية، التي انتقلت الدعوة الإسلامية بموجبها من مرحلة الاستضعاف إلى التمكين ومن محنة التعذيب والقهر إلى منحة النصر والظفر، أحد المفاصل المحورية في مسيرة النبي الكريم لإقامة الدولة الإسلامية، مضيئة بذلك جوانب مهمة في ذلك النظام الذي يريد الإسلام إقامته في واقع الحياة. فقد تحققت في تلك البيعة النصرة المطلوبة للدعوة النبوية على النحو الذي ينسجم تماماً مع مبتغاها، فتم عقد تلك البيعة، وانتقل النبي بموجبها مهاجراً من مكة إلى المدينة ليصبح حاكمها المطاع، مشكلاً بذلك الدولة الإسلامية الأولى.

وفي وقفة مع هذه البيعة نجد أن الأنصار قد فهموا بشكلٍ لا يرقى إليه أي شك أن النبي الكريم هو من سيكون الآمر الناهي في دولة المدينة، وأن نظام الحكم الذي يبتغي إقامته عليه الصلاة والسلام، له متطلبات وعليه التزامات تتعارض مع ما كان سائداً من عادات وأعراف ومواثيق، حيث أدركوا أن تلك البيعة تقتضي وضع الأنصار كافة إمكانياتهم ومقدراتهم بإمرة النبي الكريم، وأن الأمر كله رهنٌ بما سيشكله النبي من نظام يحل مكان النظام القبلي الذي كان يرفض أن يأتمر القوم بغير سيد منهم فكيف بمن هو قادم من خارج القوم، فضلاً عن أنه رجل مطاردٌ من قبل قومه، ولذلك فقد فكر الأنصار ملياً قبل أن ينجزوا البيعة وقال أبو الهيثم بن التيهان وهو أحد نقباء الأنصار(يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا ، وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم)، وفي هذا إشارة واضحة على استعدادهم لتقبل النظام الجديد وما سيبنى عليه من فسخ اتفاقاتهم السابقة مع عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان اتُفِقَ على تتويجه ملكاً على المدينة وكذلك يعني دخول علاقاتهم مع قبائل اليهود المحيطة بالمدينة طوراً جديداً يخضع للنظام الجديد، وهو ما حصل بعد ذلك. وبمجرد أن وصل النبي الكريم أبواب المدينة في هجرته إليها خرج له مئات الأنصار مسلحين يستقبلونه، قائلين له وكان معه أبو بكر الصديق (أدخلا آمِنَينِ مطاعين).

وعليه فقد كانت بيعة العقبة الثانية بمثابة تأسيس لانقلابٍ على كافة الأوضاع القائمة في المدينة بخاصة والجزيرة العربية بعامة والتي انتهت بولادة أول دولة للإسلام وبإقامة نظام حكم فريد ومتميز عن كافة ما هو سائد من نظم حكم في حينها. وُيلحظ من تتبع سيرة النبي الكريم أنه كان يعمل لتحقيق ذلك النظام وإقامته منذ وقت مبكر من دعوته.

وبهذا يظهر جلياً أن القصد من وراء حيازة السلطة لم يكن الملكَ أو الزعامةَ أو الثروةَ، ولم يكن المراد مجرد اقتباس ما هو رائج وشائع من أنظمة حكم وصبغها بصبغة الإسلام، بل كان المطلوب أن يتحقق من تلك السلطة ولادة نموذج معين في الحكم من حيث الشكل والمضمون، نظام يجسد إظهار أمر الله على النحو الذي يرضيه، ولهذا كان لا بُدّ من الوقوف بدقة على النموذج الذي أقامه الرسول الكريم بغية فهمه وإقامته مجدداً في حياة الأمة.

وأخيراً فإنه من الخطأ أن يقال إن هذا النظام أو النموذج لم يطبق سوى في العهد النبوي وفي فترة الخلافة الراشدة ومن ثم تحول نظام الحكم الإسلامي إلى نماذج أخرى، ولذا فمن الممكن الآن وبعد طول زمان من اعتماد نظام حديث وشكل مغاير لكل ما سبق طالما أن ذلك يحقق المقاصد العامة للشريعة، نعم من الخطأ أن يقال ذلك، فبغض النظر عن صدق ما بني عليه هذا الادعاء من أحكام أو من بطلانه أو من عدم دقته وإمكان دحضه، فهذا ليس موضوعنا هنا، إلا أننا كمسلمين يجب علينا أن نتحدث عن دولة الإسلام، تلك التي سعى النبي وأصحابه لإقامتها، والتي توفي النبي الكريم وهي قائمة تامة متكاملة، والتي تعتبر النموذج الوحيد الصالح شرعاً كمعيار لتقويم كافة أنظمة الحكم من حيث الصحة والبطلان أوالاستقامة والانحراف.

والمطلع على نظام الحكم في الإسلام والمعايير التي تحكمه يجد أنها غير متوفرة بأي من الأنظمة السياسية القائمة في العالم اليوم، فنظام الحكم في الإسلام يتناقض مع الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية كما يخالف الأنظمة القومية والوطنية بكل أشكالها، ديقراطية كانت أو دكتاتورية. فنظام الحكم في الإسلام هو دولة الخلافة، وقواعده التي يبنى عليها هي الحكم بالإسلام ووحدة الأمة وبيعة إمام واحد على كتاب الله وسنة رسوله. وأجهزته الأساسية تتعلق بالخليفة ومعاونيه والجهاد والولاة والقضاة والإدارة ومجلس الأمة. وأما تفاصيل دولة الخلافة فإنها كثيرة قام بتناولها وشرحها علماء الأمة قديماً وحديثاً ضمن مصنفات السياسة الشرعية والأحكام السلطانية والدستورية.

Par @faysal
انتهى بفضل الله
Haut du formulaire
Bas du formulaire
 

ليست هناك تعليقات